للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحكام النذر وأقسامه]

والمؤلف رحمه الله بعدما ذكر الحديث الدال على الحج عن العاجز الحي لعذر المرض ذكر الحديث الدال على الحج عن الميت، فهذه المرأة الأخرى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إن أمي كانت قد نذرت أن تحج) إذا كان هذا النذر لحج الفريضة، فيكون واجباً بأمرين: بالإيجاب الأول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] وبالإيجاب الثاني: وهو النذر، وإذا كان نذراً لحج النافلة، وكانت قد حجت الفريضة، ثم نذرت حجة أخرى نافلة، والنافلة بالنذر تصبح واجبة إيجاباً جديداً، ومهما يكن من شيء فأمها نذرت.

والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام، فأراد أن يلزم نفسه بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا، ويوم كذا لله، فهذا يسمى: نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في الامتحانات.

أما النذر المطلق فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم يلزمه به الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك النذر، وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر، وهذا هو الأفضل، أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) النذر لن يأتي لك بالنجاح وإنما يكون النجاح بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت وتصدقت، هل الحج أو النذر هو الذي سيشفي المريض؟ لا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠] .

هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا اعتمر؛ لأنه بخيل.

إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل) ، يعني: لا يأتي به لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى.

فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت البنت تريد أن تفك أمها مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في عافية، ولكن لما نذرت صارت مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، ولقد كان عصر الصحابة أحسن العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم، (خير القرون قرني) إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم أمر بادروا بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي) .

ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لها ليزول هذا الإشكال، وهذا رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت) يعني: أخبريني بما تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي مطالبة بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها، قال: دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه، ويرفع عنه المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق، والنذر دين لله، ودين الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن الميت.

والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من نذر بالحج أنحج عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه، بخلاف ما أوجبه الله على العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه، فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون هو الذي ورط نفسه، فيكون الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي حمّل نفسه وألزمها.

ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان عليه بأصل الوجوب: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران:٩٧] أو كان عليه بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه، أو ينفعه حج الغير عنه.

إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج عن الميت، بسبب موته، واستقرار الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا أن الحي مشروط فيه أن يكون عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة الفريضة.