والذين قالوا: إن الضمير راجع إلى البيع، الذي هو أصل الحديث:(نهى عن بيع) قالوا: بما أن الضمير عائد على البيع، فإن المحرم: بيعها، ويجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيوت المتنجسة انتفاعاً شخصياً، لا أن تباع ويؤخذ ثمنها ويؤكل، ولكن يستنفع بعينه، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، ونحن نعلم أن كل ذي نفس سائلة -يعني: دم- إذا سقط في سائل ولا نقول: قلة ولا قلتين- في إناء فمات فيه؛ فقد تنجس هذا السائل الذي فاضت نفسه فيه، وأما ما ليس له نفس سائلة إذا مات في السائل فإنه لا ينجسه، واستدلوا بحديث الذباب:(إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) قال العلماء: غمس الذباب في الماء يضمن موتها فيه، وموتها فيه لا ينجسه؛ لأنها ليس لها نفس سائلة، وقاسوا على الذباب البعوضة وغيرها مما ليس له دم.
ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، قال:(إن كان جامداً فألقوها وما حولها) ألقوا الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً فجاء في الحديث:(فاتركوه) ، وجاء:(فانتفعوا به) بم ننتفع؟ بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه، ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات:(فاستصبحوا به) إذاً: أباح لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد لماذا؟ وما الفرق بين المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد، أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت.
فمن هنا قال بعض العلماء: يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه، وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال:(هو حرام) .
يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال:(انتفعوا به) إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها فلا مانع.
وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا.
فهل يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع.
وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر.
إذاً: فماذا يصنع؟ قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه شيء.
إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز الانتفاع بها دون البيع، لحديث:(الفأرة تقع في السمن المائع فينتفع به) .