[الإفراط في العبادة له آثار سيئة]
الإفراط في جانب يؤثر على الجانب الثاني، جاءت امرأة إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي نهاره صائم، وليله قائم.
فقال: مثلك يثني بخير.
يعني: جزاك الله خيراً، مدحت زوجك، وكان بجانبه كعب بن سور، فالمرأة غطت وجهها وانصرفت، فقال كعب لـ عمر: المرأة تستعديك على زوجها وتشتكي.
قال: هي تشتكي؟! بل هي تمدح زوجها.
قال: لا، بل أتت تشتكي.
فناداها: تعالي، قال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكين زوجك، قالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! أنا امرأة شابة، وأنتظر ما تنتظر النسوة، وزوجي يصوم النهار ويقوم الليل، ولم يبق له حاجة فيَّ، فعرف أمير المؤمنين.
لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته كخليفة وكحاكم وكأمير لا يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون هذه الأبيات: قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا.
قال: وماذا قال؟ قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة.
قال: نعم الوفاء، عندهم وفاء.
قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل.
قال: إن الله حرم الظلم.
قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل.
قال: خادم القوم سيدهم.
قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم كعب بن نهشل.
قال: كفى بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فـ عمر بليغ، وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن تهنئ قبيلة بنبوغ شاعر أو فارس فيها تبعث عمر، وإذا أرادت قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات فيها تبعث عمر، وهو القائل: إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً، وفيها معنى واحد حسن، فاحملها على الواحد الحسن.
إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى المرأة.
ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله عنه فأقرت، فقال: يا كعب! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين زوجها.
فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك وبين يديك؟ قال: نعم.
القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها، وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب القاضي نائباً عن الخليفة.
سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من البعث وأخاف.
وأخاف.
إلخ.
فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال يتهجد فيها، ويتعبد فيها كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء، والليلة الرابعة واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي.
فقال له: ومن أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟! قال: الله أعطى للرجل حق التزوج بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة أعطيتها للمرأة، فقال عمر: والله! لا أدري هل أعجب من فهمك لشكواها أو من حسن قضائك؟! كلاهما.
وقد قال عمر في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: الفهم الفهم، وأول باب القضاء الفهم.
إذاً فرط إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر، ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه في الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه اليوم أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على جانب.