[الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا]
هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا، وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥] ، وقال: (التاجر البار مع الكرام البررة) ، وتقول عائشة: (من بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له) ، فالإسلام دين عمل، ودين إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] ، وقال عن الجسم: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:١٧] ، تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض.
فإذا نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير.
ونجد النصارى غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧] ، فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت الأمة المحمدية كما وصفها الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:١٤٣] ، يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:١١٠] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله في افتتاحية المصحف في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] .
والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في العبادات وفي المعاملات، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] ، فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا، قصدوا وأخذوا الوسط {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:١٤٣] لماذا؟ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:١٤٣] أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، أمة متوسطة بلا إفراط ولا تفريط.
وجاءت النصوص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:٩] وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس، واذهبوا إلى أين؟ {أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:٣١] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] .
والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل النصارى؟ لا، {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ} [الجمعة:٩] هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥] ، الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون الأودية، بل على قمم الجبال! {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:١٥] .
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] (ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
أيها الإخوة! الإسلام جمع بين المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده.
واسأل اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة، وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول: والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها.
إذاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) ، أما إذا لم نترك الجهاد فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله لا يوازي ٢٥% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع، وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا ١٠% فقط! ويقول أستاذ الاجتماع علي عبد الواحد وافي: لو أن مصر زرعت نصف أرضها الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!! والله! شيء مؤلم يا إخوان!