الفيح: هو النفس والهواء، فزهم النار عُبر عنه بفيح جهنم، واختلف العلماء: هل فيح جهنم على الحقيقة أو على المجاز؟ جاء في بعض الروايات: أن الفرق بين نار الدنيا ونار الآخرة سبعون درجة، فنار جهنم أشد من نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كانت شدة الحر من فيح جهنم، فهل تنفست النار فعلاً على الحقيقة، فحصل شدة الحر في الصيف بسبب فيحها؟ وهل هذا الحر الذي نجده في الصيف هو فعلاً من نفسها أو من هوائها ووصل إلى الأرض، أو أن هذا على سبيل التشبيه، والمعنى: أن شدة الحر يشبه شدة حر جهنم؟ بعض العلماء يقول: الحديث على التشبيه، والبعض الآخر يقول: ما المانع أن يكون على الحقيقة! فالنار اشتكت فعلاً على الحقيقة، وخلق الله لها القدرة على النطق فاشتكت إلى ربها، كما ينطق الله يوم القيامة الأعضاء والجلود، كما قال الله:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ}[النور:٢٤] ، وقال:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}[فصلت:٢١] ، وقال الله عن السماوات والأرض:{اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:١١] ، وقال:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر}[سبأ:١٠] ، وقال:{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}[ص:١٩] ، وقال:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء:٤٤] فلا مانع من أن الله خلق في النار القدرة على النطق حتى اشتكت، أو أنه جعل عندها قوة التعبير، وعلم شكواها.
فالمسألة دائرة في هذا بين الحقيقة والمجاز.
والنووي رحمه الله يذكر أن كثيراً من العلماء حملوا الحديث على ظاهره، وذكر البيضاوي عن بعض العلماء أن الحديث على التشبيه وعلى المجاز وليس على الحقيقة؛ لأن فيح جهنم لو قيس بما نحن فيه من الحرارة لكان بعيداً كل البعد؛ لأن نار جهنم تزداد سبعين ضعفاً عن النار التي تكون في الأرض، ومهما اشتد الحر في وقت القيلولة فلن يصل إلى حد النار الموجودة في الدنيا، وهي واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: فالحديث -إذاً- على التشبيه.
وابن عبد البر رحمه الله قد أطال الكلام في الاستذكار حول هذه المسألة، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إليه، ومما قاله في ذلك: لا مانع على قدرة الله أن يكون ذلك على الحقيقة، ولا أحد ينفي قدرة الله، ولكن الكلام في واقع الأمر، فهل قوله:(من فيح جهنم) على الحقيقة أو هو تشبيه بفيح جهنم؟ وبعضهم يقول: إن العرب إذا أرادت أن تضرب مثلاً لشيء تشبهه بأعلى ما يمكن فتقول مثلاً: فلان نار في طبعه، أي: أنه حار الطبع كالنار، فيمكن أن يشبه الشيء بأقصى ما يمكن من درجاته وبعده، ليُبين إلى أي حدٍ ومدى وصل في هذه الصفة.
على كلٍ: فإن الجمهور على أن الإبراد تراعى فيه مصلحة المصلين، بدليل أن الحكم معلل بشدة الحر، فإذا كان في الشتاء فلا إبراد، وإذا كان أهل المسجد حوله، ولا يأتون من مكان بعيد، كأن يكون المسجد في وسط السوق، فيأتون من السوق إلى المسجد، والمسافة بينهما أمتار قليلة، فإذا سمعوا النداء خرجوا من حوانيتهم ودكاكينهم إلى المسجد، فليس هناك شدة حر، ولا فيح ولا مشقة، فيصلون الظهر في أول وقته، فيراعى في ذلك حالة المصلين، أما إذا كانوا يأتون من بعيد، وليس هناك ما يظلهم من الشمس أبردوا.
وهناك من يقول: يراعى في ذلك المساجد العامة ولا يدخل في ذلك من يصلي منفرداً؛ لأن الفرد قد يصلي في مكان يكنه، إذا كان لا يتحمل مشقة الذهاب إلى المسجد، كأن يكون من أهل الأعذار، فيصلي في بيته فهذا لا يبرد بالظهر، ومثله من كان مع جماعة في موضع لا تلحقهم مشقة المسير إلى المسجد العام، والله تعالى أعلم.