[شرح حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وعلاقته بالإحياء]
[وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، رواه أحمد وابن ماجة.
وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ وهو مرسل] .
هذا الحديث يعتبر أحد أربعة أو خمسة أحاديث يقوم عليها التشريع الإسلامي؛ لأن الشريعة بكاملها جاءت لجلب المنافع ولدفع المضار، وأنا أقول: فيه نصف التشريع؛ لأن الشريعة جاءت بجلب بما فيه نفع للمسلمين، وبدفع الضرر عنهم، ولهذا لا تجد أمراً في الشريعة إلا ويتضمن منفعة للمجتمع فرداً أو جماعة، ولا تجد نهياً إلا وهو يدفع عن الناس ضرراً.
إذاً: هذا الحديث يختص بأحد القسمين، ونصف التشريع في هذا الحديث.
وللعلماء في هذا الحديث شروح، فمنهم من يقول: لا تضر أحداً مطلقاً ولو كان ضاراً لك؛ لأنك إذا ضررت من ضرك كان ضراراً، وكل يسابق الآخر في مضرة صاحبه، وكل عمل يتضمن ضرراً على الشخص في نفسه أو غيره فهو منفي بالحديث، وكل مضارة بين اثنين انتقاماً لحق أو ابتداءً فهو داخل فيه، إلا أن بعض العلماء يقول: يستثنى من ذلك: الانتقام من المعتدي، لقول الله: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:١٩٤] ، مع أن الاعتداء عليه فيه إضرار به، ولكن التحقيق: أن عقوبة المتعدي ليست بضرر، بل هي منفعة له برده عن مضرة الناس، ومنفعة لمن وقع عليه الضرر بكف ضرر هذا عنه.
ولا يدخل فيه الحدود: مثل قطع اليد في السرقة، فلا يأت أحد فيقول: كيف تقطع يده وأنت تقول: (لا ضرر ولا ضرار) ، وأي ضرر أكبر من قطع اليد؟ لأن فيه مصلحة؛ لأن إقامة الحد في هذا الباب ستردع الآخرين وتحمي أموالهم، وترد أولئك الظلمة المعتدين على أموال الناس خفية وظلماً.
إذاً: فيه منفعة، لكن الضرر المطلق الذي لا حق فيه هو بسرقته الأولى؛ لأنه ضرر ليس في مقابل أي نفع، فالأخذ على يده وقطعها حداً، وإن كانت فيه مضرة تقع عليه لكن يتضمنها منفعة.
إذاً: (لا ضرر ولا ضرار) لا يستثنى منه شيء قط، وإن كان البعض يقول: يخصص بما فيه إيلام بوجه شرعي، نقول: إن ما فيه إيلام بوجه شرعي ليس محض ضرر، بل فيه منفعة.
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان يذكر مع هذا الحديث: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه) ، ثم يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) ، قالوا: كيف تضع خشبك على حائط الجار، أليس هذا فيه مضرة، قالوا: لا، ما دام الحائط يحتمل ذلك، أما إن كان لا يحتمل فلا يحق له أن يضعه.
إذا جئنا بهذا الحديث إلى الأسواق والبيوت والمعاملات وكل جانب من جوانب الحياة تجده موجوداً هناك، والمؤلف يسوقه هنا ليدلل لك على أنك إذا سبقت إلى أرض موات لتحييها وكانت إمكانياتك محدودة، فأنت تحيي بالتدريج، وقد يأتي إنسان بجوارك له إمكانيات عالية، وأنت لفت نظره إلى هذه الأرض، فيأتي وينزل ويأخذ منها فهذا ضار صاحبه، ولذا في بعض روايات الحديث: (وليس لعرق ظالم حق) وفيها ضعف، وفسره ابن عباس: بأن يأتي إنسان إلى أرض الآخر فيغرس فيها ويستثمر غرسها، فيكون العرق الذي غرسه هذا الشخص قد غرسه ظلماً.
إذاً: لا يحق لإنسان أن يحيي ما فيه مضرة على أهل القرية، فلا نأتي إلى ملتقى إبلهم وبمواقف سياراتهم ونحييه، وإلى مجرى السيول وتحييه مضرة على الآخرين، ولا يأتي الإمام الذي يريد أن يحمي حمى إلى ما هو ملك للناس ويحميه، لأن هذا مضرة أيضاً؛ لأنه أخذ لملك الغير بدون حق.
إذاً: لا مضرة لا في الحمى ولا في الإحياء.
كذلك إذا وجدت أرضاً فضاءً ومواتاً وجاء إنسان وأحياها، وهذه الأرض تحتاج إلى سعة بجوارها تجعل جريناً للحب ونجعل وموضعاً للتمر وللمنافع عامة مجمع للأسمدة أو للتراب أو للخشب أو لجريد النخل، هذه مرافق للبستان، يأتي إنسان وينزل ويبني فيها، فليس له حق؛ لأنها مرافق للأرض والمرافق تبع للأصل (لا ضرر ولا ضرار) .
وهذا يأتي أيضاً في باب الجوار، أنت في ملكك وجارك في ملكه والجدار مشترك بينكما، فلا يحق لك أن تحدث في بيتك ما يتضرر به جارك، ولا أن تنصب رحى كبيرة إذا أدرتها هزت الجدران وأضرت بجارك، ولا أن تحفر بئراً في بيتك مقابل بيت جارك يسحب ماءه، أو أن تحفر البيارة مقابل بئره الذي يشرب منه فتفسد عليه ماء البئر، لا يحق لك أن تسيء إليه بدخانك، وهكذا، كل ما يمكن أن يضر به الجار جاره يأتي هذا الحديث ويخاصمه: (لا ضرر ولا ضرار) .