حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً، قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: (أغصب يا محمد؟! قال: بل عارية مضمونة) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم: وأخرج له شاهداً ضعيفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما] .
قوله: عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) .
يسوق لنا ابن حجر رحمه الله في نهاية باب العارية هذين الحديثين: حديث يعلى وحديث صفوان، فـ يعلى يقول: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) ، مبدئياً في هذا الجزء من الحديث ما يدل على أن للشخص أن يرسل رسولاً عنه في قضاء حاجته، ويكون بمثابة الوكيل في القبض، فإذا سلّم المرسل إليه الرسالة إلى هذا الرسول فكأنه سلمها إلى من أرسله.
(إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) الدرع هو: لباس من زرد الحديد، حلق صغيرة، فراغ الحلقة أقل من الـ (سم) ينظم بعضها في بعض حتى تكون كالثياب على صورة القميص، يلبسها الفارس ليتدرع بها من وقع السهام أو الرماح أو السيف، وتختلف جودةً ورداءةً وطولاً وقصراً إلى غير ذلك، وهي من أهم آلات الحرب.
وفي هذا الحديث: الاستعانة في أداة الحرب بالعارية مع قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠] ، ما يدل على أن استعداد المسلمين يكون بصنعهم وبملكهم وبالاستعارة من غيرهم، ومثل الإعارة الإجارة، ومثل الإجارة الشراء ولو من غير المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى يعلى وقال له: (أعط رسلي ثلاثين درعاً) .
وهنا يستوضح يعلى: (أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟) ، المؤداة هي: التي تبقى بعد استعمالها على ما كانت عليه فيؤديها للمعير، والمضمونة هي: التي إذا تلفت -وتحت كلمة تلفت ضع خطين- تلفت فيما استعيرت له أو تلفت بتعدٍ أو تقصير يضمنها المستعير، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مؤداة) .
وقوله: (مؤادة) ، الفقهاء يتفقون ويقولون: إذا كانت العارية مؤداة فالتالف لا ضمان فيه، بخلاف العارية المضمونة، فما بقي على طبيعته رده بعينه وما تلف فيما استعير له أو بتعدٍ أو بتفريط فهو ضامن، وقوله: (مضمونة) يعني: يعوض عن التالف إن كان مثلياً فبمثله، وهذه الأدرع إذا تلفت فعليه أدرع مثلها من نوعها ومن مقاسها، وإن كان في الوقت الحاضر فهناك أواني معروفة الماركة، أو المساحة، أو المقياس، فعليه مثلها.
وهذا الحديث نص في أن العارية مؤداة.
ومعنى مؤداة: أن العين الباقية على ما هي عليه أولاً ترد، والتالفة لا ترد، ولا ضمان فيها، وفي حديث صفوان: (بل عارية مضمونة) وهذا من تعارض الأحاديث، وهي مهمة هذا الكتاب، بلوغ المرام لأدلة الأحكام.
فالفقهاء مختلفون في العارية هل هي مؤداة أو مضمونة؟ فمن قال: مؤداة استدل بحديث يعلى.
ومن قال: العارية مضمونة استدل بحديث صفوان.
إذاًَ: إذا وقع الخلاف في الحديث وأخذ كل إمام برواية أو بحديث مغاير للآخر وكلا الحديثين صحيحان فهل يمكن أن يعيب من قال بأحد القولين على من قال بالقول الآخر؟ مثلما يقول الشناقطة: (ما بال بائك تجر وبائي لا تجر) فلا تعب عليَّ وأنا آخذ بحديث صحيح، كما أني لم أعب عليك حينما أخذت بحديث صحيح، فكلانا مستدل بدليل شرعي، ولكن هناك خطوة أرقى وهي: النظر في مختلف الحديث إلى ما هو الراجح وهل المسألة اتفاقية؟ وهل كل من الطرفين متساوٍ مع الآخر؟ وهناك أشياء قال فيها ابن القيم رحمه الله: لا اعتراض على أحد إذا أخذ بأحد الأقوال فيها لصحة أسانيدها، وهي: ألفاظ الأذان، والصوم في السفر أو الفطر، والتيمم ضربتان أو ضربة واحدة، فالأذان هل يربع ويرجع فيه أم لا؟ وهل الإقامة مثل الأذان أم لا؟ ومن أخذ بتربيع التكبير أو بتثنيته وجعل الإقامة كالأذان أو أفردها فالكل صحيح، ومثل هذا أنواع المناسك في الحج: فمن أخذ بأحدها: أخذ بالإفراد، أو أخذ بالتمتع، أو أخذ بالقران فنسكه صحيح؛ لأن كل نسك فيه نصوص صحيحة، ولا ينبغي الخلاف فيها ولا الاعتراض على من خالف غيره؛ لأنه إن ذهب إلى واحد منها فبدليل صحيح والآخر إن ذهب إلى غيره فبدليل صحيح، فلا خلاف، وهذه المسألة قد أطالوا فيها القول.
ونأخذ الكلام على حديث صفوان أولاً: عن موضوعه، ثم نرجع إلى القضية من صلبها لا من خارج عنها إن شاء الله.
وصفوان يقول هذا بعد فتح مكة وكان صفوان لا زال على دين قومه، وكان هذا في غزوة حنين في عام الفتح، عند أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هوازن قد جمعت له، فبادرها قبل أن تبادره؛ لأنه كان يعلم قوة هوازن، وكان قد خرج معه من المدينة عشرة آلاف مقاتل وتهيأ معه من مكة ألفان فصاروا اثني عشر ألفاً والعشرة الذين جاءوا من المدينة جاءوا بسلاحهم وبكامل عدتهم، وأما الذين جاءوا معه من مكة فالبعض منهم ينقصه شيء؛ لأن البعض خرج لإسلامه، والبعض خرج حمية لقومه، والبعض خرج للنظر وللغنيمة.
فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم دروعاً لهذا العدد الجديد، وهو يعلم أن صفوان عنده دروع عديدة، فأتاه وسأله، وصفوان ما زال على دين قومه لم يسلم حتى قيل: إنه هرب ثم رجع، فطلب منه مائتي درع، وقيل ثمانين، وقيل: مائة، وقال له: (وتوصلها إلينا إلى حنين) ، أي: أعرنا إياها وعليك حملها تبرعاً من عندك، وهنا سأل كما سأل يعلى: هذه العارية على أي أساس على أنها مضمونة أو على أنها مؤداة؟ فكان جواب رسول الله لـ صفوان: (بل مضمونة) .