[استسقاء النمل مع سليمان عليه السلام]
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خرج سليمان عليه السلام يستقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) رواه أحمد، وصححه الحاكم] .
هذا الحديث يستوقف كل مسلم وقفة طويلة، لا للاستسقاء فحسب، ولكن للتأمل في عجائب قدرة الله، وللتأمل فيما وهب الله لأصغر مخلوقاته من معرفته سبحانه، وما أهمه وجعل فيه من غرائز.
تفوق عقل الإنسان في تصرفاته وعقائده.
وهذا الحديث يمكن أن يدخله العلم في عدة أبواب، فمثلاً في الأصول يدخل في مسالة (شرع من قبلنا هل هو شرع لنا) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا ما وقع لمن كان قبلنا، وهو نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وسليمان عليه السلام قد خصه الله بملك لم يأته لأحد من بعده، فعلمه منطق الطير، وسخر له الجن والريح، وأعطاه -كما في كتاب الله- ما لم يؤت أحد من العالمين.
وها هو كما في كتاب الله يسمع خطاب النملة، ويفقه ما قالت، ويتبسم ضاحكاً من قولها، وها هو صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يخبرنا بأن نبياً قبلنا -وهو نبي الله سليمان- خرج يستسقي.
فالاستسقاء قديم في الأمم الماضية، وهو دأب المسلمين الذين يعلمون بأنه لا يسوق الخير إلا الله، ولا يدفع الشر إلا الله، ولا يقوى على إنزال المطر سواه، فخرج نبي الله سليمان يستسقي -أي: يطلب السقيا، وبمن معه- فإذا به يرى النملة.
وأما كيف رأى النملة وكيف سمعها فهذا أمر لا يقوى عقل البشر على إدراكه، وإنما عليه أن يؤمن بما وقع، ويترك كيفية وكنه ذلك لله رب العالمين.
وإن قيل: كيف يراها على صغرها وهو خارج في جمع من الخلق؟ نقول أيضاً: وكيف سمعها وهو في جنده وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ.
} [النمل:١٨] فالله سبحانه وتعالى أعطاه القدرة على رؤيتها وهو في حالته، فلو كان جالساً أو ماشياً على قدميه فإنه يتفقد ما تحت رجله، أو ينظر إلى القريب منه، ويمكن أن نقول ذلك في هذه الحالة، لكنه خرج في جمع من أمته يستسقون رب العالمين، فكيف رآها؟ وعند هذه الآية الكريمة يروي بعض العلماء أن النملة رأتهم من مسافة ستة أميال قبل أن يصلوا، ثم أنذرت قومها، وسنرجع إليها إن شاء الله.
في موضوع الدرس هنا أن نبي الله سليمان خرج يستسقي -أي: يطلب السقي- فإذا به يرى نملة، ولم يرَ النمل كله، فيراها على تلك الحالة، ورأى قوائمها التي تكاد تكون أنحل من الشعر، وهي رافعة قوائمها إلى السماء، ولها ست قوائم.
فاستلقت على ظهرها ورفعت قوائمها، وهذا فيه رد على من لا يرى رفع اليدين في الدعاء، فهذه نملة تعرف أين تتوجه، وتسأل المولى لا من بطن الأرض، ولا من شرق ولا غرب، ولكن من السماء من العلو، ترفع قوائمها إلى الله كالذي يرفع يديه مستصرخاً ضارعاً، كما تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه -أي: في هذه الحالة بالذات-، وهذه النملة مستلقية على ظهرها، ورفعت قوائمها تسأل الله.
ثم يروي لنا أنها قالت: (اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك) ، أو (بذنوب العباد) كما في رواية أحمد: (فلا تهلكنا بذنوب العباد، لا غنى لنا عن سقياك) ، وفي بعض الرويات -كما يذكرها الجاحظ: (إن لم تسقنا تهلكنا، إن لم تسقنا فأمتنا) أي: لنستريح من عذاب القحط.
فهذه نملة وهي أيسر ما تكون تأتي بهذا العمل، فمن أحق باللجوء إلى الله الإنسان أم هذه الحشرة؟ ومن أحق بالضراعة إليه الإنسان أم هي؟ ومن أحق بالاعتقاد بأن كل شيء بيده سبحانه؟! فما كان من نبي الله سليمان إلا أن اكتفى بدعائها، وقال لمن معه: (ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) .
فالله تعالى سمع دعاء النملة، كما يقول الزمخشري: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل فالمولى سبحانه يسمع ويرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، فهذه هي القدرة الإلهية والعظمة الربانية، فهو الله ذو الجلال والإكرام سبحانه.
فإذا بسليمان ومن معه يرجعون.
فلله خلائق أخرى، ولله أمم وأجناس، فهو أرحم الراحمين.
وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:٣٨] ، فالطيور والوحوش والحشرات إنما هي أمم ولها نظامها.