من باع حراً فأكل ثمنه
[ (ورجل باع حراً فأكل ثمنه) ] .
قوله: (رجل) هنا إنما هي وصف طردي، وقد يكون أيضاً امرأة؛ لأن التكليف واحد.
وكيف يبيع حراً؟ هل يستطيع إنسان أن يأتي على أحد الجالسين ويقول: أنا بعتك؟! يمكن، ويصدق هذا في أحد أمرين: إما بطريق الكتمان والغدر.
وإما بطريق السلب والنهب بالقوة.
أما طريق الغدر: فيكون بينه وبين العبد أنه أعتقه لوجه الله.
فصار حراً، ثم يندم ويقول: أنا لماذا أعتقه؟ لماذا لا أبيعه وآخذ ثمنه خيراً لي؟ فبعد أن تقرر العتق وصار حراً وليس عند العبد شهود إثبات، هل تعرفون عبدي فلان؟ قالوا: نعم.
قال: أريد أن أبيعه؟ العبد يقول: أنا حر، أنت أعتقتني.
يقول: كذاب.
فباعه وأكله ثمنه.
أو يظهر قطاع الطريق على أناس يمشون، ثم يأخذونهم ويختطفونهم ويبيعونهم، وكان يقع هذا في بعض البلدان: يحتالون على الشخص حتى يدخلونه في بيت ويقيدونه، وفي الليل يخرجون به ويذهبون إلى جهات أخرى يبيعونه فيها.
زيد بن حارثة من أين جاء؟ خرجت به أمه تزاور أخواله إلى الطائف، فخرج عليهم قطاع الطريق وأخذوه، وأنزلوه إلى مكة وباعوه، ووصل إلى خديجة بالثمن، فوهبته لرسول الله يخدمه، وكان أبوه يبكي طوال الليل والنهار ويسأل ويبحث، ثم قيل له: إن ابنك في مكة عند بني هاشم.
فجاء وأتى بأخيه معه، وأتى بالمال، واستقصى حتى عرف أنه عند محمد بن عبد الله -قبل البعثة- فقال: يا محمد! سمعت أنك الوفي الأمين، وأنك وأنك.
وأن ابني عندك، وقد جئت بفدائه، فاقبل منا الفداء.
قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه وأخيره بيني وبينكم، إن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني على أهله.
قالوا: أنصفتنا.
قال: إذا كان بعد العصر فقوموا في المسجد واطلبوا طلبكم، فجاء زيد وقال: والله لا أختار عليك أحداً أبداً.
فقال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على السيادة والحرية؟ قال: وكيف لا! والله مذ صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله.
يعني: وجدت عنده من الرحمة والرفق وحسن المعاشرة ما لم أجده عندك أنت.
فحينما قال ذلك أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به حول الكعبة وقال: زيد ابني.
وصار يقال له: زيد ابن محمد، حتى جاء القرآن وفصل القضية: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:٤٠] حتى ولا نسائكم {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:٤٠] ، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:٥] .
ثم جاءت القضية الثانية: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:٣٧] الزواج بالإجبار، بتكليف من الله، لم؟ هل تنقصه نساء أو زوجات؟ لا، لكنه زواج للتشريع لا لإرضاء الخاطر وإشباع الرغبة كما يقول السفهاء.
وفي قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:٣٧] ، ويأتي هناك سياق القضية بمقدماتها وبأدلتها: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:٤] ، هذه قضية تشريعية، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:٤] ، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:٢] {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:٤] ، تأتي المقدمة بالواقع، لا يوجد واحد عنده قال.
وإن كان بعض الصحابة كان يقال له: (أبو قلبين) ؛ لأنه كان جريئاً، لكن خلقة لا يوجد.
وكذلك ما جعل الله الزوجة أماً، أمك واحدة التي ولدتك، فيأتي بقضيتين طبيعيتين مسلمتين ليبني عليها، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:٤] ؛ لأن الشخص له أب واحد، كيف تكون أنت أبوه وذاك أبوه؟ كما لم يكن للرجل قلبين لا يكون له أبوين، وكذلك لا يكون له أمين.