للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كيفية الترجيح في المسائل الخلافية]

ونحن سبق أن قررنا بأن المسائل الخلافية لا يتأتى تحقيق الأمر فيها إلا بأربع خطوات: الخطوة الأولى: إدراك الخلاف على ما هو عليه الآن: فـ الشافعي يقول: المس ينقض الوضوء.

وأبو حنيفة يقول: لا ينقض، ومالك وأحمد يفصلان.

الخطوة الثانية: معرفة دليل كل قائل، فنعرف الدليل الذي استدل به، ثم نعرف دليل أبي حنيفة، ثم نعرف دليل مالك وأحمد، ونترك دليل كل قول عند صاحبه.

الخطوة الثالثة: نأتي ونتساءل: الشافعي حينما يرد على أبي حنيفة في استدلاله بعدم النقض، هل لديه شيء يرد به عليه؟ وأبو حنيفة هل عنده شيء يرد به على الشافعي على ما استدل به من عموم النقض؟ إن وجدنا رداً ونقداً من الشافعي لـ أبي حنيفة وكان مقبولاً قبلناه، وإن وجدنا رداً من أبي حنيفة لأدلة الشافعي، وكان مقبولاً قبلناه، وكذلك نقول لـ مالك وأحمد: ما دليلكما على أدلة الشافعي وأبي حنيفة؟ فإن وجدنا عندهما أدلة تكفي أخذنا بها، وإذا لم نجد في أقوال بعضهما في أدلة البعض الآخر ما يمكن أن يؤخذ به تركناه.

فإذا تعادلت جهات الخلاف باعتدال وتوازي أدلتها تركناها معلقة، وذهبنا نطلب الترجيح من خارج تلك الأدلة إن وجدنا.

وطرق الترجيح كثيرة كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الترجيح بحر لا ساحل له.

ولهذا يقول الشافعي: لا ينبغي لأحد أن يعترض على أحد رجح عنده حكم لم يرجح عنده هو؛ لأن لديه من المرجحات ما ليست عندك، ولو فرضت رأيك وكانت المسألة إلزامية ليس رأيك بأولى أن نفرضه من رأي الآخر، فمثلما تود أن تفرض رأيك فالآخر يود أن يفرض رأيه، والمسألة بالأدلة.

إذاً: نخطو تلك الخطوات لتصور الخلاف، وهذه المسألة قد اخترناها فعلاً في كتاب: (موقف الأمة من اختلاف الأئمة) ، لأنها مسألة عملية، فالناس في بيوتهم الرجال مع النساء، يصلون، ويطوفون بالبيت، ويذهبون ويجيئون، كل ذلك -كما يسميه العلماء- مما عمت به البلوى، فلا يمكن أن نعزل الرجال عن النساء خاصة في بيوتهم، إذاً: نحتاج إلى إمعان النظر في هذه المسألة، وإلى التأني والتمهل فيها.

فنأتي أولاً إلى من يقول بأنه ناقض لأنه ناقل عن الأصل، فنقول: بم استدل الإمام الشافعي رحمه الله على أن مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ استدل رحمه الله بقوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:٤٣] فهذان متساويان في وجوب التيمم إذا لم تجدوا الماء، ومنها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) .

فقلنا له: إن (لامس) يرد عنها أبو حنيفة بأن المراد به الجماع.

يرد الشافعي ويقول: جاءت القراءة الأخرى: ((لمستم)) فأنا أتمسك بنص الكتاب في (لمستم) وهي تبين القراءة الثانية: ((لامستم)) .

هذا قول الشافعي رحمه الله.

ثم نأتي إلى الإمام أبي حنيفة ونقول: بم استدل على أن اللمس لا ينقض الوضوء؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل عدم وجوب الوضوء، فمن أوجبه فليقم الدليل، ومن أدلتي: أن (لامس) بمعنى: جامع، وقد فسرها بذلك ابن عباس، ومن أدلتي أن الرسول قبّل عائشة ولم يتوضأ.

قال له الشافعي: قد جاء عن ابن عمر أنه قال: قبلة الرجل امرأته من الملامسة، وفيها الوضوء.

أجاب أبو حنيفة وقال: هذا كلام ابن عمر، وكلام ابن عمر لا يقضي على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، تقول: وأنا نائمة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد لمسني بيده أو غمزني بقدمه فكففت قدمي عنه ليسجد) فهذا غمز ولمز ولم يكن هناك وضوء، وهو في الصلاة وليس لقصد، فماذا يقول الشافعي؟ قال: نعم، لكن لم تمس البشرة البشرة، بل كانت نائمة متغطية بملحفتها فغمزها من فوق الحائل.

فماذا يقول أبو حنيفة؟ قال: إذا قلتم ذلك، فماذا تقولون في قولها: (قمت ذات ليلة فلم أجد رسول الله عندي، والحجرات آنذاك ليس فيها سرج، فقمت أبحث عنه بيدي، فوقعت بطن كفي على قدمه وهو ساجد في المسجد، وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، ففي هذا الحديث وقعت بطن كفها على بطن قدمه، فماذا تقولون؟ قالوا: نعم، الإنسان قد يكون ساجداً والإزار ساتر على قدميه فبينهما حائل.

فقال أبو حنيفة: قد جاء عنها رضي الله تعالى عنها: أنها انتظرته حتى قام من الركعة الأولى، وظنت أنه ذهب إلى جاريته مارية، فقضى حاجته واغتسل وجاء يصلي، قالت: فقمت فأدخلت أصابعي في شعر رأسه أنظر هل هو مغتسل أو لا؟ فماذا تقولون في ذلك يا شافعية؟! قالوا: ليس فيه شيء؛ لأنها لامست الشعر، والشعر ليس فيه حرارة.

إلى هنا تكون الكفة بين الشافعي وأبو حنيفة راجحة لـ أبي حنيفة، على ما فيها.

وأما الذين قالوا بالتوسط فماذا يقولون في أدلة أبي حنيفة؟ قالوا: إنما استدل بأمور عادية، ولكنا نقول بالقول الوسط الذي لم يقله الشافعي ولا أبو حنيفة، ودليلنا مستقل عنهما.

وهو: الحديث الذي جاء فيه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا أبيع التمر، وجاءتني امرأة تطلب تمراً، فأغواني الشيطان، فقلت لها: عندي في البيت خير من هذا، فذهبت معي لأعطيها تمراً من البيت، ولكن حدث أن كل ما يفعله الرجل مع امرأته قد فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني.

قال: هل صليت معنا العصر؟ قال: لا.

قال: توضأ وصلِ) .

فقال المالكية والحنابلة: هذا الرجل قد لمس ولامس وفعل ما يقصد به اللمس فعلاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، بينما لم يتوضأ من مجرد القبلة، فقد تكون قبلة عاطفية كما يقبل الإنسان زوجه وهي مريضة، أو يقبل ابنته الصغيرة، أو يقبل أمه عاطفة وبراً، فالقبلة ليس فيها دعوى الشهوة، وكذلك الملامسات الأخرى، كقول عائشة: غمزني أو لمسني بيده.

فكل هذه أمور عادية، فتركنا الوضوء من الأمور العادية، وأوجبنا الوضوء من الأمور غير العادية؛ لأنه قال للرجل: توضأ، وموجب وضوء الرجل هنا هو ما كان منه مع المرأة؛ لأنه لامسها بقصد الشهوة، ولذا شعر بالإثم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقال: طهرني!.

قالوا: لا، من قال لكم: إن الرجل قبل أن يلقى المرأة كان متوضئاً حتى انتقض وضوءه بهذه الحالة.

فلماذا قال له: توضأ؟ قال له: توضأ.

لأن الوضوء مكفر للذنوب (إذا غسل وجهه خرجت خطاياه.

إذا غسل يديه.

إذا فعل.

إذا فعل ... ) .

قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الاستفصال من الرجل قبل أن تأتي تلك المرأة، فلم يقل له: كنت متوضئاً أم غير متوضئ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال في الحال، فكأن الرسول لم يعتبر وضوءاً قبل ذلك، وأمره بوضوء جديد لتلك الحالة.

فقلنا: بأن مطلق اللمس لا ينقض، ولم نقل: كل لمس لا ينقض، وقلنا: اللمس بشهوة هو الذي ينقض.

فما رأيكم الآن ما بين أحمد ومالك وأبي حنيفة؟ أي الكفتين ترجح؟ مالك وأحمد.

وعلى هذا -أيها الإخوة- نحن لا نطمع أن نزيل الخلاف في مسألة خلافية اختلف فيها الأئمة رحمهم الله؛ لأن لديهم من النصوص، ما يؤيد ما ذهبوا إليه، وهناك نصوص عديدة لا أستطيع أن أسردها كلها أو أحفظها كلها، ولكن هذه هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهذا القدر يكفينا، فإذا كنت شافعياً أو حنفياً أو مالكياً أو حنبلياً أياً كان، وكنت من أهل النظر والترجيح ما الذي تطمئن نفسك إليه بصرف النظر عن المذهب الذي تأخذ به؟ كما يقال: الحال الوسط والذي يجمع بين الأدلة هو ما ذهب إليه مالك وأحمد، ولو قال قائل: الأحوط ما قال الشافعي.

ويكون أحوط للعبادة وأصح، ولكن الأحوط فيه تكليف وإفساد، فيه إبطال الوضوء السابق، وفيه تكليف بالوضوء من جديد، وهذا فيه أيضاً إحراج.

إذاً: من حيث المنهج العلمي ومن حيث البحث في الأدلة على هذه الطريقة يكون قد ترجح عندنا ما ذهب إليه مالك وأحمد.

عندنا جزئية يضطر إليها الشافعية فيقلدون فيها مالكاً وأحمد، وهي أنه في حالة الطواف وشدة الزحام تجد بعض الإندونيسيات يلبسن القفازات، والمحرمة ممنوعة من لبس القفاز، فتأتي المحرمة وتلبس القفازين حتى لا ينتقض وضوءها، حتى إن من الرجال من يلبسهما حتى لا يلمس المرأة، ولبس القفازين ممنوع على المحرم، ومن هنا نجد الشافعية يقولون: من أراد أن يطوف بالبيت فيقلد مذهب مالك وأحمد أو مذهب أبي حنيفة في الطواف؛ حتى لا يبطل وضوءه، ويكون على اعتقاد بأخذ قول إمام معتبر ينجيه من الورطة، وإلا لو بقي شافعياً فليس بمكمل طوافه طوال عمره! فإذا قيل: إذا حصل اللمس يكون فلمن النقض: للامس أم للملموس؟ هناك من يقول: النقض للامس؛ ولهذا بعض الشفاعية ما قالوا بوجود حجاب وغطاء في قصة عائشة، وإنما قالوا: هي التي لمست، الرسول ما لمس، وإذا كانت هي متوضئة ينتقض وضوءها أما الرسول فلا، بل يستمر في صلاته؛ لأن النقض للامس وليس للملموس.

وإن قيل: باللمس حصلت شهوة عند الاثنين،