[الاعتبارات الشرعية في اختيار الإمام للصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة، سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم] .
حديث أبي مسعود هذا فيه تفصيل ما أجمل في حديث عمرو.
فنا (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وحديث عمرو: (أكثركم قرآناً) ، فالمراد الأكثر مع أجود وأحسن قراءة، فإن وجد كثير القرآن لا يعرب القراءة، وقليل القرآن يعرب فنقدم الذي يعرب ولو كان أقل حفظاً.
قال: (فإن كانوا في القراءة سواء) ، أي: كلاهما يعرف التجويد، ويحسن التطبيق، وليس المراد مجرد القراءة؛ لأن العبرة في التجويد التطبيق، فإنه أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً وسماعاً، فإن كان في ذلك سواء فمن الذي يقدم؟ وقبل هذا قال: (يؤم القوم) ، ولم يقل: سيدهم، ولا أشرفهم، ولا أميرهم، ولا أفضلهم، إنما جاء إلى وصف في الإسلام، وهو الربط بالأصل الذي هو كتاب الله، وفي هذا توجيه الأمة بأكملها أن تتجه إلى إجادة قراءة القرآن؛ لأن هذه الصفة تؤهلهم إلى إمامة القوم، ونعلم من الناحية الأخرى أن في الخلافة الكبرى، أو في أمور الرئاسة والسياسة والإدارة يتولى خلافة الأمة وسياسة أمرها أفضلها، كما جاء في تولية أبي بكر الصلاة بالناس، وسيأتي التنبيه عليه.
فإن كانوا في القراءة سواءً، ونريد أن نقدم أحد الشخصين أو الأشخاص ننتقل إلى مرجح آخر وهو: (أعلمهم بالسنة) ، يعني: أفقههم بالسنة، ولماذا لم يقل: أفقههم بالكتاب، وقال: أقرؤهم لكتاب الله؟ (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، يقول العلماء: لأن فقه السنة أعم من فقه القرآن، فالسنة هي المبينة والمفصلة لجميع آيات الأحكام في كتاب الله، وما من آية في فريضة ولا في حد إلا والسنة تبين مجملها، أو تقيد مطلقها، أو تخصص عمومها، فكما قيل: الكتاب يحتاج إلى السنة أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب، ومن هنا تجب العناية بفقه السنة.
وإذا جاء بعد (أقرؤهم) (أفقههم للسنة) فأقرؤهم تُحمل على معنى الفقه أم على تجويد القراءة؟ تحمل على تجويد القراءة؛ لأن الفقه جاء منصوصاً عليه في قوله: (أفقههم بالسنة) .
وهنا يأتي العلماء بقضية، ويقولون إن الأقرأ لابد أن يكون الأفقه، قالوا: لأننا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس مع أنه قال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، وقال: (خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب) ، فذكر أربعة أشخاص ليس فيهم أبو بكر وعمر، وقال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، فكيف يقدم أبا بكر وقد شهد بأن أقرأهم أبي بن كعب؟ أجابوا عن ذلك بقولهم: إن تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر لا لمجرد الصلاة، ولكنه إرهاص وتنبيه وإرشاد وتعليم للأمة بأن الذي سيخلفه في مقامه هو أبو بكر، بدلالة تقديمه له في الصلاة، وعند أبي بكر من القراءة والفقه ما يصلح الصلاة.
وإنما قدِّم الأفقه؛ لأن الإمام قد يطرأ عليه في صلاته ما يبطلها أو يخل بها، فلابد أن يكون فقيهاً عالماً، يتجنب ما يبطل الصلاة أو يخل بها.
ولكن أمور فهم الصلاة وإبطالها أمر ضروري، وقل من يجهل ذلك، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لديه من القراءة والفقه ما يقتضي ذلك وزيادة، ولذا كانوا يقولون: أبو بكر أفقه الناس، أو أفقه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهادة عمر وعثمان وغيرهما.
قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) .
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:١٠] ، فالذين سبقوا إلى الهجرة لهم خصوصية عمن لم يهاجر إلا بعد الفتح، ولا هجرة بعد الفتح، ثم يبحث العلماء، في أقدمهم هجرة هل خاص بالسلف الأول المهاجرين من مكة إلى المدينة، أم أن الهجرة لم تنقطع؟ قالوا: لو قدر في بلد من البلاد أنه تضايق المسلمون واضطروا إلى الهجرة إلى بلد إسلامي، فإن اعتبار التقدم في الهجرة هناك يعتبر هنا الآن.
وبعضهم قال: إن أبناء المهاجرين السابقين يعطون حقوق الآباء، فابن السابق هجرة مقدم على ابن المتأخر هجرة، وكل ذلك اعتبارات للترجيح.
فأحياناً كان يأتي النفر الواحد مهاجراً، وأحياناً يأتي الرجل ومعه الرجلان والثلاثة والعشرة والأربعون مهاجرين معه، فإن كان أحد سبق ولو بيوم فهو مقدم، وإن هاجروا في وقت واحد فلا ترجيح.
قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) .
إن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أقدمهم في الإسلام قبل أن يهاجروا؛ لأنهم -كما يقولون- كانوا يعدون المسلمين عداً، كما يقول بعضهم: (كنت سابع سبعة) ، فـ عمر (لم يتقدم عليه ثلاثون رجلاً) ، وحمزة كان قبله بثلاثة أيام.
وقد أحصى المؤرخون تاريخ السابقين الأولين في الإسلام، ومتى أسلموا، فمن أسلم قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الندوة، ومن أسلم بعد أن خرج منها كل هذه التواريخ مقيدة.
فإذا كانوا في الهجرة سواءً فالذي تقدم إسلامه هو الإمام، وكل ذلك مفاضلة فيما بينهم لمن يستحق الإمامة، وكل هذا مع اجتماع أقرئهم وأعلمهم وأسبقهم هجرة.
أي: إذا استووا في كل ما تقدم.
ثم (أكبرهم سناً) ؛ لأن الإمام كلما كان كبير السن كان موضع توقير عند الناس.