[حفظ الإسلام للدين والمال والأسرة]
ويقول علماء الاجتماع: الدين ضرورة اجتماعية، يمكن أن تجد مدينة بلا ملعب ولا ملهى ولا مسبح، ولكن لا تجد مدينة بدون معبد -على عبادتهم صالحة أو طالحة- لأن الداخل لابد من إعماره وإلا كان خواءً، فيملأ الداخل بعبادة.
كيف تكون؟ هذا أمر مختلف فيه، وكما قيل سابقاً: الشرق الأوسط فيه خلاء لابد من شغله -أي: خلاء سياسي- وكذلك الداخل في الإنسان خواء ما لم يشغله بتعبد، وأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام وهي حجارة وهم من ينحتونها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:٣] .
إذاً: أمر بحفظ الأديان والأبدان وعدم الاعتداء عليها، وهذه مشاكل العالم كله، وقد عجزت هيئة الأمم، ومجلس الأمن، والجامعة العربية، وهيئة الإسعاف والإغاثة وكل تلك الدوائر والمؤسسات عن كف وحقن الدماء في تلك البلاد التي تسفك فيها الدماء ونحن نسمع ذلك ليل نهار، سواء كان بين مسلمين وغير مسلمين، أو شحناء وعصبية قبلية كما يوجد الآن في بعض دول أفريقيا، فلو حفظت الدماء، وأمن الناس، واستقرت الحياة، ليسعدوا بالأمنين {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٤] .
وكذلك الأموال؛ لأن الإنسان يسعى لكسب المال، وهذه غريزة، وهذا دفع للشيوعية كما كانت؛ لأنه لولا المال وحق تملكه والميراث من بعده ما سعى إنسان لجمع أكثر من قسط يومه؛ ولكن يجمعه لمستقبله ولذريته ولما شاء الله، وهكذا الأنساب، لو ضاعت ضاعت المجتمعات، وكما كان يوجد في (نظام الكبتس) ، وهو معسكرات أو مستوطنات يجتمع فيها الأخلاط من رجال ونساء، ليس عليهم كسب للعيش، يطعمون ويسخرون في عمل الدولة، وعليه أن يعمل حيث ما وجه الرجل أو المرأة، ويضمن له طعامه وشرابه، والرجال مع النساء سواء، وما جاء من الذرية يعيش في تلك الحياة، وينشأ على ذلك الحال، ولا يعلم من أبوه ولا من أمه! وهكذا ضاعت المجتمعات.
إن النظام غير الأسري نظام منهار؛ لأن كل فرد بذاته، ولو أخذنا منهم جيشاً وواجهوا العدو فكل إنسان يراعي حياة نفسه، أما المجتمع الأسري الذي يعيش على الأسرة، والترابط وذوي الأرحام؛ فإننا إذا أخذنا جيشاً من هذا المجتمع وقف أمام العدو.
إن هذا النظام الأسري لا ينظر إلى شخصه ونفسه، بل ينظر إلى أمه وخالته وعمته وأبيه وعمه، ويكون سداً منيعاً أمام من وراءه من ذوي رحمه وقرابته، فالمجتمع الأسري مترابط كالبنيان يحمي بعضه بعضاً، والمجتمع غير الأسري لا حياة له لعلكم سمعتم سابقاً في أول قيام إسرائيل، من المجيء بالفرق الأجنبية المستأجرة من هذا النوع، ليس لها أسر، وكانوا يربطون في المصفحات بالسلاسل؛ لأنهم إذا واجهوا العدو شردوا، فليس عندهم من يدافعون عنه، والقضية ليست قضيتهم إنما هي قضية غيرهم، فلا يبيع حياته بأجرة يأخذها.
هكذا نجد الفرق بين المجتمع الذي يحافظ على أنسابه، ويقوم على كيان الأسرة، وبين المجتمع الذي لا نظام للأسرة فيه ويكونون كقطعان الغنم، أو كالسمك في الماء، لا يلوي فرد على فرد، ولا أحد على أحد.
إذاً: تحريم الأنساب هو قاعدة البناء للمجتمع الإنساني الصحيح، وهكذا الأعراض؛ لأن من حفظ عرضه وحفظ كيانه، ووجد نفسه طاهراً نقياً حافظ على ذلك الطهر.
ومناسبة هذا الحديث الذي من أجلها جاء به المؤلف قوله: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ، ومناسبته لباب الغصب إنما هو لذكره تحريم المال والعرض؛ لأن العرض يغتصب، والمرأة إذا اغتصبت لا حد عليها؛ لأنها مكرهة، وهكذا الرجل إن صح ذلك كما يقول ابن تيمية رحمه الله.
وهكذا -أيها الإخوة- نجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة يجمع أطراف الإسلام وتعاليمه كلها في تلك الخطبة، وأنا أسميها: (مجمل الإسلام) ، فلو أن إنساناً تأمل كل ما جاء فيها لعلم قدرها، وهي ولم تجمع حتى اليوم، ولو أن طلاب علم -ليس بطالب علم- تعاونوا على جمع جملها وفقراتها من كتب السنة والتاريخ لخرجوا لنا بدستور ومنهج قويم من السنة النبوية، يعتبر الإجمال لكل تفصيلات التشريع منذ ثلاث وعشرين سنة، فكل باب من أبواب الإسلام تطرق له النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة العقائد، والعشرة في البيوت، والضرب في الأسواق، حفظ الكيان الإنساني في نسبه وعرضه.
إلى غير ذلك.
وإذا كان مدلول هذا الحديث ومناسبته لباب الغصب فإننا بهذه المناسبة نرجع قليلاً إلى تلك الخطبة ومثارها، حيث قال صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة مطلقاً: (خذوا عني) ، وجاء مقيداً: (خذوا عني مناسككم) فالأول أعم؛ (خذوا عني) كل شيء مما يقوله، ويفعله، ويقرره، خذوا عنه في شأن الحج مناسككم، خذوا عنه في شأن المرأة، والمال، والبيع والشراء، والمعاهدات، والمجتمعات، خذوا عنه كل شيء رأيتموه سواء كان سماعاً أو رؤية أو تقريراً.
ثم الجملة التي جاءت مع هذه المقدمات: (خذوا عني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وفعلاً فإنه ما حج بعدها، ولا أدرك الحج، ولا عُمِّر طويلاً، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.