الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى، فنترك الدنيا دون أن نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية وانهماكاً في موادها أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأمة أمة وسطاً، فقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}[البقرة:١٤٣] ، وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست في المعنوية، وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة الفاتحة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:٦-٧] ، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت وعملت.
فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي منشؤه التراب {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ}[ص:٧١] ، والعنصر الثاني الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}[الحجر:٢٩] ، فبمجموع الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته ومتطلباته، فالعنصر المادي يرجع إلى المادة، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً}[نوح:١٧] ، ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي عالم ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى.
فاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في العبادات، والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا في جانب المادة، وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين لا مادية لاهية، ولا رهبانية طاغية.
فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}[الجمعة:٩] هذه روحانية {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً}[الجمعة:١٠] ، فالاستجابة إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض بعد الصلاة لمتطلبات البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من فضل الله وتذكر الله وأنت في عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين، وكانوا شهداء على الناس، كل المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ رسلهم رسالة ربهم، ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم استطاعوا أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح، فاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح ويميل.
أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت سيراً متوازياً منذ أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم شهداء على الناس في تطبيق المنهج الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب، في الوقت الذي أفلست فيه الأمم التي من قبلنا لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، كما تكونون شهداء على الناس في الآخرة.
وعلى هذا لا يكون الإنسان المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن الدنيا وراءها آخرة، وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي لا يؤمن ببعث، ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها على كل ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب.
ولهذا نجد بعد قوله تعالى:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:٧] الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:١-٢] من هم؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:٣] وهو كل ما غاب عنك، وما جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة}[البقرة:٣] ، إيمان بالغيب وعمل في الحاضر {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:٣-٥]{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦]{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:٥] وهكذا القرآن يفسر بعضه بعضاً.