[شرف يوم الجمعة]
وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ذكر خلق آدم يوم الجمعة، وكانت خلقة الأنبياء في أيام متعددة، فخلق آدم ما فضيلته؟ قالوا: لأنه بخلق آدم وجد الإنسان، وبوجود الإنسان كان التكليف، وبوجود التكليف كان التوحيد، فعبد الله، وأرسلت الرسل، وجيء بالكتب، وكل ذلك نتيجةً لخلق آدم ابتداءً، فخلق آدم كان أساساً لوجود الخلائق، وسبباً لوجود التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقالوا: إن كان آدم سبباً في هذا الخير فإن من أبناء آدم من جاءوا بالمعاصي ملء البحر والأرض، فقالوا: ساعة من ساعات من توحيد رب العالمين خير من ملء الأرض كلها من المعاصي.
ولذا جاءت الآية بأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وجاء: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) .
فمهما كان عند العبد من عصيان، أو ما يقع في الأرض من عصيان، فإن ما يوجد في الأرض من طاعة وعبادة وتوحيد خير من الدنيا وما فيها.
فوجود آدم في هذا اليوم سبب في هذا الخير الكثير، وبه عرف الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث القدسي: (خلقت خلقاً وبه عرفوني) ، ويقولون: إن ثلاثة أشياء خلقها الله بيده، وبقية الكائنات قال لها: (كوني) فكانت، فقال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين, وقال للجبال: (كوني) فكانت، ولكن خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] ، وأيضاً غرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، فقالوا: هذه ثلاثة أشياء أوجدها بيده، فشرفت لذلك.
ولا يقال: كيف خلق آدم بيده؟ وكيف غرس الجنة بيده؟ وكيف كتب الألواح لموسى بيده؟ فالكيف لا يرد على الله سبحانه أبداً في أي شيء كان، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .
ثم بعد ذلك شرف آدم بأن أسجد الله الملائكة له، وهل سجدوا له ابتداءً أو سجدوا له بعد أن أظهر الله شرفه؟ بعد أن أظهر الله شرفه بتعليمه، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣١-٣٢] ، فلما أنبأهم كانت النتيجة أن أسجد الله الملائكة له تكريماً، وليست عبادة كما يظن الجهلة، بل تكريماً له على العلم.
وقد وجدنا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أن العلم يكرم أهله، وبالتأمل نجد أن العلم يكرم المتعلم، ولو كان حيواناً ولو كان طائراً، فالهدهد لما غاب عن نبي الله سليمان، وتفقد الطير فقال -كما حكى الله تعالى عنه-: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:٢٠] قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢] فكأنه ألغى العلم بالوحي، وكل ما يأتيه، والجن يعملون بين يديه، وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢] ، وذكر له أمر بلقيس وشأنها بعد ما قال نبي الله: {لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١] .
فلما جاء بهذا السلطان، وتوسم فيه نبي الله الصدق قال: (سننظر) فتراجع عن تنفيذ الحكم، أو أوقف التنفيذ، وهذه الحكمة والسنة تجب على العالم الإسلامي، خاصة طالب العلم، فإذا جاءه أمر مستغرب لم يقف على حقيقته لم يبادر في الإنكار، ولا يسارع بالقبول، بل يقول كما قال نبي الله سليمان، مع أن لديه وسائل الاكتشاف والاطلاع، فالريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك قال: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) ، وقدم الصدق لأنه وجد مخايل الصدق في تأكيد الهدهد على خبره، فقال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:٢٨] .
فهذا طائر لم يتعلم، ولم يدرس أصول الفقه ليستنتج، وهو في طيرانه اكتشف ما كانت تعبده بلقيس، فرجع يخبر عنها، فما أعمل المقاييس ولا أعمل الأجهزة، ولا استنتج النتائج، فجاء ونجا من الذبح ومن القتل، وبعد أن كان في تلك الحالة أصبح كبيراً مفوضاً من نبي الله سليمان إلى الملكة، وجاء بها مسلمة.
وما أكل السبع فهو ميتة إلا ما أدركته وذكيته، بينما الكلب يمسك عليك، وتأكل مما أمسك إذا أطلقته وسميت اسم الله عليه، كما إذا رميت بالسهم وسميت اسم الله عليه، ولو أن الكلب كان غير معلم فهو سبع، لكن إذا أصبح معلماً فإذا أرسلته انطلق وإذا دعوته أجابك، ولا يأكل لنفسه، حلَّ صيده وما يمسكه عليك فهو لك حلال تأكله، وما أصابه الأسد -وهو سيد الوحوش كما يقولون- فإنه ميتة، إلا أن تذكيه أنت فيحل بتذكيتك إياه.
وهكذا العلماء، فهم كما قال صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء.
فلما علم الله آدم الأسماء، وعرضهم على الملائكة فلم يعلموها اعتذروا إلى الله -ولهم الحق- فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣٢] ، وهذا منهج لطالب العلم، فإذا سئل عما لا يعلم قال: لا علم لي، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا يقتحم أبواب النار، وقد قيل: اشد الناس اقتحاماً للنار أجرؤهم على الفتوى؛ لأنه قد ينطق بغير علم، ولا ينبغي للإنسان أن يفرح بسؤال يرد عليه ويفرح بالإجابة، إلا إذا كان موقناً كإيقانه بوجود الشمس.
وكانت الفتوى تأتي إلى علماء المدينة السبعة ويتدافعونها كلٌ يحيل على الآخر حتى ترجع إلى الأول، كل ذلك فراراً وخشية من الإفتاء بغير علم.
فشرف يوم الجمعة بخلق آدم، وتشرف آدم بالعلم، ثم أسكنه الله الجنة، قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:٣٥] ، والجنة كانت كلها مباحة له غير هذه الشجرة، وتلك حكمة الله، وكما يقول بعض المحققين: الله خلق آدم ليعمر الأرض، كما هو الواقع، فإذا قال له: ادخل الجنة فإنه سيأتي وقت يدعى فيه للنزول إلى الأرض وهذا لا يكون من طبع الكرماء، فلو كان عندك ضيف وأنت كريم، ومكث عندك فإنك تستحيي أن تخرجه دون أن يخرج، لكن جعل الله سبحانه وتعالى تلك الشجرة حتى يشعر آدم بذنبه، فإذا قيل له: اهبط إلى الأرض عرف لماذا أهبط، فلا يكون بخلاً من المولى عليه، ولا يكون تقتيراً عليه، ولا يكون إخراجاً بغير سبب، على أن هذه أمور لا ينبغي الخوض فيها.
فنزل إلى الأرض يوم الجمعة، واستغفر ربه، وسأل الله التوبة والمغفرة وأناب، فاجتباه ربه فهداه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧] ، فتيب عليه يوم الجمعة، ونحن أيضاً في حاجة إلى عرض التوبة وإلى تكرارها، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى كثرة الصلاة والتسليم عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإلى الاستغفار وكثرة العبادة، حتى قيل: إن الصدقة تضاعف في يوم الجمعة.
وفي الحديث الذي في الموطأ: (وما من دابة على وجه الأرض.
إلخ) .
عموم الدواب، فما من دابة إلا وتدخل في هذا العموم أياً كانت، حتى الطير الذي يطير بجناحيه ويدب على وجه الأرض.
ومعنى: [تصيخ] بالخاء أي: تصغي سمعها يوم الجمعة.
والإنسان والجان لا يصيخون، فالحيوانات تدرك يوم الجمعة وتميزه عن الخميس والسبت وتصيخ بسمعها، قال ابن عبد البر: إن الله يخلق لها ما يروعها أو يفزعها.
وهذا شي لا ندخل فيه، فالله أعلم بأي كيفية تصيخ؛ لأن لله تعالى سره في خلقه، فجميع الكائنات تعرف ربها، وجميع الكائنات تسبح لله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] ، فهذا الحال فوق طاقتكم، وفوق عقولكم، ومرجعه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا ينبغي على العاقل أن يجعل له من يوم الجمعة -كما يقال- نصيباً يجتهد فيه، فعنده ستة أيام يعمل فيها لدنياه، وعنده يوم الجمعة الوحيد، وقد يعمل فيه إلى أن ينادى للصلاة، فليكن سعيه يوم الجمعة باستغراق وتفرغ، ويبكر قبل ذلك ما شاء الله له، كما في الحديث الآخر: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) إلخ، ويجعل يوم الجمعة للأمور الآتية: أولاً: يستريح فيه من عمل الدنيا.
ثانياً: يروح على نفسه من هذا العناء.
ثالثاً: يتذوق فيه العبادة والذكر والدعاء، وقد حث صلى الله عليه وسلم على كثرة السلام عليه.
كما يجعله لقراءة القرآن والتسبيح والاستغفار، وكل ذلك مما يتهيأ به الإنسان ويتزود.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق.