للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث: (من اشترى طعاماً ... )

قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي أبي هريرة - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله) رواه مسلم] .

هذه قضية مهمة لاسيما في حق التجار، وخاصة تجار (القطاعي) أو (التصريف) ؛ لأن التاجر على قسمين: تاجر جملة، وتاجر قطاعي (تجزئةً) .

فتاجر الجملة يأتي ويشتري كمية كبيرة، كما نشاهد في أيام جذاذ التمر، فيكيل عشرة قناطير! وعشرين قنطاراً! ويتركها في المستودعات عنده، فإذا قدر أنه اشترى مائة كيس، وكالها، وكل كيس فيه عشرون صاعاً، وعدها مائة كيس، فجاء إنسان يريد أن يشتري كيساً، فقال: أنا حينما اشتريتها كلتها، وفي كل كيس عشرون صاعاً، فاختر أي كيس منها، فهذا لا يجوز، فلابد أن نأتي بالصاع، ونكيل الكيس مرة أخرى، حتى قال بعض العلماء: لو كنت حاضراً في السوق، والتاجر اشترى صبرة قمح، أو تمر، وكالها الكيال وأنت موجود، كالها بين البائع والمشتري وأنت واقف، فكانت عشرين صاعاً، فوضعها في الكيس، وتركها على جنب، ثم جئت بنفسك، ووجدت الكيس بعينه، وأردت أن تشتريه على ما شاهدت من كيل سابق، فلا يجوز للبائع أن يبيعها عليك، حتى يعيد الكيل -من أجلك- مرة أخرى، فيجري فيها الصاع مرتين.

فإن قلت: لما نكيل الكيل الثانية تحصيل حاصل؛ لأني رأيته بنفسي كاله أمامي فلماذا؟ قيل: دفعاً للتهمة، ومنعاً للشك، وما يدرينا، فلعل الكيال حينما كال أمامك غلط في العدد، فربما أنقص صاعاً، أو زاد صاعاً، سهواً، فأنت أخذت الكيس على الكيل الأول، وذهبت إلى البيت، وقسمته بين عائلتيك، فإحدى العائلتين أخذت عشرة صيعان مستوفاة، والعائلة الأخرى صار لها تسعة صيعان، فالناقص هذا على من يكون؟! سترجع إلى من باعك، والبائع يقول: البائع أنا كلت أمامك، فتكون العهدة على الذي باعك، أو على المالك الأول؟ الذي باعك، لكن الذي باعك تم الكيل أمامه، فهل يستطيع أن يرجع على الأول، ويقول: أنت الذي أحضرت الكيال وأنت الذي كلت، وأنت الذي عديت؟ لا، سيقول البائع: بل أنت الذي أنقصت، أنت الذي أخذت! ثم يرجع المشتري الأول على المشتري الثاني! ويقول: يا عم! أنا أعطيتك كيساً فيه عشرون صاعاً، فذهبت به إلى البيت، ثم أنقصت صاعاً! وستقع المشاجرة، وسيقع النزاع، فحسماً للنزاع؛ كل يكيل لنفسه.

وهذا أيضاً قد يقع حالياً في بعض المؤسسات مع الموظفين، فحينما يصرفون الرواتب وتستلم من البنك، وهي معدودة بعد البنك، فيستلمها الموظف على عدّ البنك ولا يعدها، ثم يذهب إلى بيته ويوزعها فإذا هي ناقصة، فهل يستطيع أن يرجع بهذا النقص على الصراف، أو أمين الصندوق، ويقول: أنت أعطيتني مرتبي ناقصاً؟! ولذا توجد لوحة عند كل أمين صندوق، (لا تقبل النقود بعد الخروج من الغرفة) ؛ لأنه ممكن يسحب منها ويضعها في جيبه، ويرجع ويقول: هذه ناقصة، ولكن عدّها أمامه.

إذاً: هذه الأمور التي يحتمل فيها الخطأ، ويحتمل فيها الغلط والنسيان، ينبغي أن يعاد المكيال، ويعاد المعيار، والميزان، والعدد، لكل إنسان على حده، حتى نسلم من الاتهام، ومن الشك، فممن كان هذا النقص؟! لا ندري، إذاً: سيقع هناك النزاع، فمن اشترى طعاماً واكتاله، لا يجوز له أن يبيعه حتى يكيله مرة أخرى للمشتري، ولابد من أن يحوزه وينقله، ولا بد من إعادة الكيل، أو الوزن، أو العد، منعاً للغرر، وحسماً للنزاع.