قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ... )
ولم يقتصر تعليمه على من عاصرهم، بل قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:٣] أي: لما يأتوا بعده ولما سئل صلى الله عليه وسلم:: (من هم هؤلاء الآخرون يا رسول الله؟ وكان سلمان الفارسي جالساً فوضع بيده على ظهره وقال: لو أن الإيمان في الثريّا لبلغه رجالٌ من قوم هذا) يعني: هم فارس والروم، وفي ذلك الوقت ما دخل في الإسلام منهم أحد سوى سلمان رضي الله عنه.
ومن العجيب أنه في صدر الإسلام يسوق الله من جميع الأمم والأجناس أصنافاً تشترك في الإسلام، وتستظل بدوحة الإيمان، كـ سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وكما يقال: الواحد بالجنس، فإذا أسلم واحد من الفرس أمكن إسلام الجميع؛ لأنه واحد منهم، وإذا أسلم واحد من الروم أمكن إسلام الجميع، وإذا أسلم واحد من الحبشة أمكن إسلام الجميع؛ لأن الذي يجري على واحد من جنس يجري على جميع أفراد الجنس، فالإنسان -كما يقال- حيوان ناطق، فما يجري على فرد من أفراد الحيوانات يجري على جميع أفرادها، فالحيوان يجوع ويعطش ويشبع ويروى ويمرض ويموت، وكذلك جميع أفراد الحيوانات، فكذلك هذه الأجناس البشرية جاءت منها نماذج واستظلت بدوحة الإيمان في الجزيرة العربية.
فمن كمال الرسالة ومن تمام النعمة أن الدعوة الإسلامية لم تقتصر على من نشأت فيهم وبين أيديهم، ولكنها ستمتد وتأتي إلى آخرين لما يلحقوا ولم يأتوا بعد، وقد جاء في الأثر -كما يذكر ابن كثير -: (إن في أصلاب رجال ونساء من أمتي قوم سيدخلون في الإسلام) ، وفي الحديث أنه قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي وسيأتي بعدكم إخوانٌ لنا.
قالوا: ألسنا بإخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواننا قومٌ لم يأتوا بعد، آمنوا بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بملء الأرض ذهباً) .
وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] ، وقد جاء رجل إلى الحسن رضي الله عنه، وتكلم عنده على ما حصل من علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال: يا هذا أأنت من الفقراء المهاجرين؟ قال: لا.
قال: أأنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قال: لا.
قال: ما أظنك أيضاً من الفرقة الثالثة: (الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، بل جئت تطعن فيهم، وجئت تتكلم عليهم فاخرج عنا.
ولذا جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: من كره أصحاب رسول الله فليس له حظٌ في الفيء.
ويهمنا هذا التقسيم الثلاثي الذي أشار إليه الحسن رضي الله عنه، فالمسلمون إما مهاجرون، وإما أنصار تبوءوا الدار والإيمان من قبل مجيء المهاجرين، وإما آتون من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] .
ومن هنا يعلم أن كل من كان في قلبه شائبة غل لأحد من أصحاب رسول الله، أو من أتباعهم فليحذر، وليخش على نفسه، فإنه في موضع خطرٍ عظيم عليه.
وهنا يقول تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:٣] ، و (لما) تأتي في اللغة للنفي مع ترجي الحصول، بخلاف (لم) فقولنا: (لما يأت زيد) ، معناه: لم يحضر وسيحضر، كما في قوله سبحانه في حق الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] ، أي: لكن يطمع في دخوله.
ولذا تقول: أثمرت الشجرة ولما تونع الثمرة، أي: هي في طريقها إلى الإيناع.