غسل اليد اليمنى ثلاثاً إلى المرفق
قال: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) بعدما غسل الوجه ثلاث مرات بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في المرفق ليحدد الجزء المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه، والكفان من اليد، وبعض الناس يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو المعروف يميناً ويساراً من الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها تسمى: الكف، والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب.
ووجدنا الشرع في ذكر اليد تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة يقيدها بقيد معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:٦] ، فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى الرسغ، والمرفق: هو المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنك تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان، فيساعد الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق في الجلوس.
وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في التيمم في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:٦] ، ولم تأت بلفظ (المرافق) ، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا عمل مستقل، ولا يقاس أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على مقيد ذاك؟ فـ الشافعي رحمه الله حمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم إلى المرفق كما هو في الوضوء إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما جاءت به السنة، فضرب بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد المطلقة في التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة.
وكذلك جاءت اليد في حد السرقة وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب، وتخصص العام في الكتاب، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:٣] فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان) ، فخصص عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت.
فكذلك هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين.
وعلى هذا النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟ يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت الشعر، وليس هناك حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في الصيام: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:١٨٧] ، فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل جزءاً يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار بكامله؟ فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق الصوم في النهار واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من أوله ولو دقيقة واحدة، وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛ لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن الحد المعروف، فكذلك غسل اليد إلى المرفق.
لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:٦] ، واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل الغاية في الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟ هنا قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:٦] ، فهل المرافق داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا معنى: هل الغاية تدخل في المغيا أم تخرج عنه؟ فإذا جئنا إلى حكم اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا، وقد جاء النص: (أدار الماء على مرفقيه) ، فهل أدخلهما في المغسول أم لا؟ والجواب: أدخلهما.
ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف نخيل، ويليه صف رمان، فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع -أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم خارجة عنه؟ فهل اشترى منك تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟ والجواب أنها داخلة.
فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه عشر شجرات، فقلت لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل الليمونة الأولى داخلة في المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟ والجواب: خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت الغاية خارجة عن جنس المغيا فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما دام أنه وضعت حدود نجد هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف.
فقوله: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل المرفق، مع أن النص: (وأدار الماء على مرفقيه) .