وقد استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:(طهور إناء أحدكم) ، والطهور يكون من نجس أو من حدث، لكن مالكاً ناقشهم بالسبر والتقسيم، وقال: هناك قسم ثالث، وهو الطهورية من القذر، ولكن هذا استنتاج، فما هو الدليل عندك -يا مالك - على أن سؤر الكلب طاهر؟ قال: إن الأصل في الحي الطهارة، فكل حي طاهر عند مالك، كما أن الأصل أن كل حيوان ميت فهو نجس، وهذه قاعدة في الحياة وفي الموت.
واستدل مالك بالنص القرآني الكريم، فإن المولى سبحانه وتعالى لما سأل السائلون: ماذا أحل لهم؟ قال:{قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}[المائدة:٤] ، قال مالك: فكلب الصيد يذهب ويمسك الصيد لصاحبه، ولم نجد الأمر بغسل موضع عض الكلب للصيد، وليس هو مجرد ولوغ، بل هو عض بفمه كله على الصيد، فلم يؤمر صاحب الكلب المعلم أن يغسل موضع عض الكلب للصيد، لكن قال الجمهور: هذا الموضع يقطع ويرمى، ولو لم يرمَ فسيشوى في النار، والنار تحيل النجاسة إلى طهارة، فقال مالك: النار أذهبت المعنى التعبدي الذي أمر بالغسل من أجله، قالوا: وما هو الأمر؟ قال: الأمر صحي، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
واستدل المالكية بصنيع البخاري في صحيحه، وهو وإن لم يصرح بمذهبه، فإنه يدل على ميوله إلى مذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه ساق أربعة أحاديث يفهم من مجموعها عدم نجاسة سؤر الكلب، منها حديث كلب الصيد، ومنها:(كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وما الفائدة من هذا الحديث الذي يسوقه البخاري في كتاب الطهارة؟ قال السيوطي: إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في صحيحه أكثر من دلالتها في غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه، وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده حديث في معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى تحت الباب ولا يسوق الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى ويأتي بحديث في الظاهر أنه بعيد جداً، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا البخاري بوب: كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في عام الوفود سنة تسع كان صلى الله عليه وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف في السنة التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم، ويروا تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا جميعاً، قال البخاري: كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة الأرض فإن لسانه يلهث أيضاً، فلا بد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي، ولا أمر بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب نجساً لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر به.
وكذلك استدل المالكية بقضية كلب الصيد على أن سؤره ليس بنجس.
إذاً: الخلاف على هذا النحو: مالك يرى طهارة سؤر الكلب، والجمهور يرون النجاسة، وكلٌ يستدل بما تقدم.