تقدم الكلام على حديث الرجل:(عندي درهمٌ يا رسول الله! قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك ... ) ، وتكلمنا على حقوق الأولاد، وأنه ينبغي معاونتهم ومراعاتهم وتوفية حقوقهم والإنفاق عليهم ما داموا لا يجدون أسباب الرزق ولا مجالات عمل، وهناك ناحية تركناها سهواً، وهي: أن بعض الناس قد تدفعه الشفقة والعطف على الولد بأن يغدق عليه المال بلا حساب، ويستجيب لجميع طلباته، وهذا في الواقع مفسدة، كما أن ترك الولد دون الإنفاق عليه مفسدة، ويدفعه إلى الإساءة، وهكذا الإغداق عليه بدون حساب يكون فيه الإفساد أيضاً، وأول ما يكون الضرر على الولد: إن الفراغ والشباب والجده مفسدةٌ للمرء أي مفسده ونسمع أن بعض الناس لديه الولد المدلل، فيشتري له السيارة، وعند مجيء موديل جديد يستقذر الأولى، ويصر على أبيه أن يشتري له أخرى، ويرضخ أبوه لطلبه، ويأتيه بأخرى جديدة، ثم لأنه لم يتعب فيها، ولم يدفع من ثمنها شيئاً؛ لا يبالي بها، ولا يهتم بالحفاظ عليها، وهذا كمثال.
فكثرة المال في يده بغير حساب تدفعه إلى تصريف المال في غير طريقه، وقد يصيبه المفاسد من الآخرين، وجاءت في السنة النبوية قصة ينبغي للمجتمع كله أن يتعظ بها، حتى تكون للعاطفة حدود، وهي ما ثبت (أن رجلاً يهودياً رض رأس فتاةٍ بين حجرين، من أجل أوضاح لها على رأسها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وجيء إليه بالفتاة، وهي في الرمق الأخير، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكر الجاني حقيقة؛ فأومأت برأسها أي: نعم هو، فأتي به فاعترف، فاقتص منه، ورضَ رأسه بين حجرين) .
فهذه القصة تعطينا دراسات واسعة في باب الأمن الجنائي؛ لأن هذه طفلة صغيرة، يحبها أهلها، ولشدة محبتهم لها زينوها بالحلي، ورصعوا رأسها بقطع الذهب، وهذا الذهب بريقه يخلب عيون ضعاف النفوس، فسولت لليهودي نفسه بقتلها، وجاء في بعض طرق الحديث:(فاستدرجها إلى ضاحية المدينة، وأدخلها خربة، ورض رأسها) ، وقد سبق أن شرحنا هذه القصة بكتابة تحليلية طويلة، ونشرت في مجلة الجامعة، بأن أهل هذه الفتاة شاركوا في الجناية عليها، لأنهم وضعوا عليها ما لا تستطيع حفظه ولا حراسته ولا صيانته، ووضعوا عليها ما يطمع فيها الأشرار، فهم الذين سلطوا عليها هذا اليهودي، ولولا تلك الأوضاح التي على رأسها ما التفت إليها! ثم أيضاً: يجب على البلديات، وعلى ولاة الأمور؛ ألاَّ يتركوا في أطراف المدن أماكن خربة تكون مأوى لمثل هؤلاء الناس، وتكون موطناً لتنفيذ خططهم الإجرامية، وكان بسبب هذه المقالة بحث مع المسئولين في بعض الخربات، وعولجت قضيتها تجنباً لوجود مأوى لهذه الأعمال.
والذي يهمنا أن زيادة التعاطف مع الأولاد وإعطاءهم أكثر مما يستحقون؛ فيه مفسدة، كما أن عدم الإنفاق عليهم فيه مفسدة، ولا شك أن الفضيلة هي التوسط، كما قيل: الفضيلة وسطٌ بين طرفين.
وكذلك قوله:(تصدق به على زوجك) ؛ بعض الزوجات قد تدل على زوجها من الجوانب التي يتأثر بها، فتكثر عليه الطلبات ويرضخ لها، ويستجيب لعواطفها، وفي كل مناسبة تحتاج إلى لباس جديد، وكل ما يظهر نوع من الألبسة بما يسمى (الموضة) تحمل زوجها فوق طاقته، ولربما حملته على الاستدانة من أجلها! وهذا لا يتفق مع الأخلاق الفاضلة، ولا مع المروءة، ولا مع حسن العشرة، فلا ينبغي التطرف، لا في الإمساك والتقصير في أداء الواجب، ولا في البذخ الزائد عن الحاجة، فيكون ذلك إطغاءً للولد أو للزوجة، هذا ما أحببنا التنبيه عليه؛ تتمةً لما جرى عليه الحديث البارحة فيما يتعلق بالإنفاق على الولد.