قال تعالى:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}[الجمعة:٤] .
(ذلك) اسم إشارة يرجع إلى ما قبله، فيشمل بعثة النبي الأمي من الأميين، ويشمل شمول بعثته لتعليم الأميين الكتاب والحكمة وتزكيتهم مع الذين يأتون من بعدهم.
فهو فضل نعمة النبوة على الأمة التي أنعم عليها بهذا النبي الأمي الكريم، ونعمة امتداد الدعوة وشمولها لمن لم يشهد نزول الآية الكريمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) ، ولهذا كان الإنعام على العبد بالإيمان محض نعمة من الله، حتى قال العلماء: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: إيجاده من العدم، ونعمة الإسلام، ودخول الجنة.
وبيان ذلك أن الإنسان قبل أن يوجد في هذه الدنيا ويبصر بعينيه كان في العدم، ولم يكن منه فعل يوجب خروجه إلى الدنيا؛ لأنه معدوم، والعدم لا يكون منه وجود، وغاية ما يكون أن أبويه تزوجا واجتمعا، وليس كل اجتماع زوجين يتأتى منه الولد، بل هي هبة من الله، كما قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى:٤٩-٥٠] .
فإيجاده نعمة من الله، وإلا فلو كان الأبوان عقيمين فمن أين سيأتي؟ فهي نعمة من الله لم يكن للإنسان فيها كسب.
والنعمة الثانية: نعمة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، هذا الشخص الذي ولد من أبوين مسلمين، لو قدر له أن يولد من أبوين نصرانيين أو يهوديين فينصرانه أو يهودانه، مع أن أول مجيئه إلى الدنيا كان على الفطرة، فكون الإنسان يولد من أبوين مسلمين لا كسب له ولا عمل له في ذلك.
وكذلك دخول الجنة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله:(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، فقوله تعالى:(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فضلاً على الأمة التي بعث فيها، وعلى الذين يأتون بعد ذلك، فتعمهم وتشملهم الدعوة.
وها نحن والحمد لله في القرن الخامس عشر بعد بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم نقرأ القرآن الذي أنزل على رسول الله، والكتاب الذي علمه أصحابه، ولكأنه نزل الآن، وكلما قرأناه فكأننا نقرأ شيئاً جديداً، وكلما نسمعه كأننا نسمع شيئاً جديداً، فلا يخلق على طول الزمن، ولا يبلى على كثرة التكرار، يصلي الإمام العشاء فيقرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين، ويصلي التراويح عشرين ركعة، ويصلي الوتر ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة في كل ذلك، وكما نسمعها في أول الصلاة في العشاء في الركعة الأولى نسمعها جديدة في آخر ركعة في الوتر، لا تمجها الأسماع، ولا تستثقلها القلوب، بل يستأنس لها الإنسان كلما سمعها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:٤] .