قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) ، رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنة أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حيث ابن عباس رضي الله عنهما وزاد في آخره:(إلا أن يشاء الورثة) ، وإسناده حسن] .
هذا الحديث تكلم عنه المؤلف، وتكلم عنه الشارح أيضاً، وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لقد وصل إلى حد التواتر، وإن الأمة قاطبة تعمل به.
إذاً: إذا وصل إلى هذا الحد فلا حاجة إلى البحث في رواياته مادام أنه قد جاء عن مثل هذا الإمام الجليل رحمه الله ورضي الله تعالى عنه القول بأنه قد وصل إلى حد التواتر، والمتواتر لا يبحث في سنده، حتى لو كان فيه غير عدول لقبلت أقوالهم مع الآخرين تأييداً للواقع.
والمتواتر هو: ما جاء من طرق متعددة يرويه جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون نهاية استنادهم الحس، وليس الظن والاجتهاد وإنما الرؤيا أو السماع، فمثلاً: لو حدثت حادثة في الحج كأن نزل مطر وفيه برد، ويقولون: قد نزل البرد في عرفات حتى تمزقت بعض الخيام وو و، فالذي هو في المدينة أو في مصر أو في الشام أو في المغرب إذا رجع الحجاج وكل على انفراده أخبر بما وقع يوم عرفات فإن هذا العدد من الناس يستحيل أن يتواطئوا وأن يجتمعوا في مكان ويقولون: لنخبر أهل المدينة أنه وقع برد، ولم يكن قد وقع، فإذا استحال اجتماعهم وتواطؤهم على الخبر وكان مستند إخبارهم الحس، فقد رأوا، وشاهدوا، وجاءهم البرد على رءوسهم، فكل هذه استنادها على شيء محسوس فيقبل، وأما مقدار هذا العدد فالأصوليون يقولون: من ثلاثة إلى خمسة، وعلماء الحديث يقولون: بعدد لا يمكن حصره، فإذا وصل الحديث إلى حد التواتر كان العمل به لازماً ما لم يعارضه شيء آخر.
وهنا في هذا الحديث:(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، لأن الوارث قد أخذ حقه، فلو أعطيناه زيادة على حقه الذي أعطاه الله فإننا، نكون قد غيرنا في أعطيات الله للناس في الميراث، ويكون في ذلك مضارة على غيره من الورثة، وهنا قالوا: إن هذا الحديث نسخ آية الوصية، وهي قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}[البقرة:١٨٠] لمن؟ {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[البقرة:١٨٠] .
يقولون: قبل أن تنزل آيات المواريث، كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين.
أي: وصية بما جادت به نفسه، والمال من حيث هو كثر أو قل للولد، ثم أنزل الله الفرائض وجعل للذكر من الأولاد ضعف الأنثى، كما قال تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء:١١] ، وكذلك الإخوة والأخوات، وجعل للأبوين مع وجود الولد لكل واحدٍ منهما السدس، وجعل للزوجة ما بين الربع والثمن، وللزوج مابين النصف والربع، فأعطى كل ذي حق حقه.