اختلف الأئمة رحمهم الله، فـ الشافعي رحمه الله يقول: قوله: (لا صلاة) عام شامل لكل الصلوات، ولكنه يصرف إلى الصلوات التي لا سبب لها، أما إذا كانت الصلاة لها سبب يقتضي إتيانها فليست داخلة في النهي، وتكون مستثناة من عموم الصلاة، فهو رحمه الله خصص عموم حديث:(لا صلاة) ، واستثنى من هذا العموم ذوات الأسباب، فكأنه يقول: لا نصلي بعد العصر إلا ذات السبب فنصليها لسببها.
والجمهور يقولون: لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب.
لعلنا الآن نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث:(لا صلاة بعد العصر) يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي الجمهور أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله:(لا صلاة بعد العصر) نكرة عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات منهي عنها بعد العصر.
والشافعي قال: لا، فقوله:(لا صلاة) يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، لقوله:(إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فـ الشافعي يقول: الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، والجمهور يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية المسجد.
فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها ذات سبب، فيكون خصص عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص تحية المسجد من عموم قوله: (لا صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص عموم قوله:(إذا أتى) ، فإن الإتيان عام في جميع الأوقات، لكن نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى في كل وقت إلا بعد العصر.
نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة بتحية المسجد، فأصليها بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون للشافعي: لا، نحن لا نستثني تحية المسجد من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا كان الأمر كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب الشافعي، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك صلاة تحية المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل سيقول له: وأنت لم صليت؟ فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن تابع الجمهور سيقول: أنا أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث:(إذا أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي! قوله: (لا صلاة) عام في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات الأسباب، فكل منهما له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب الحق؛ لأن هذا يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل منهما له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فماذا نفعل؟