[خلاف العلماء وأدلتهم في مسألة الإبراد بالظهر]
ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها وقالت: يا رب! أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها في الصيف، وأشد ما تجدون من الزمهرير فهو من نفسها في الشتاء) .
ومعنى قوله: (أكل بعضها بعضاً) ، أي: أن حرها وأوارها قد اشتد فطلبت من ربها أن يخفف عنها، فسمح لها بنفسين، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها، وأشد ما تجدون من البرد فمن نفسها، فالنار فيها حر وبرد! فيها الزمهرير وهو شدة البرد، وفيها النار والحميم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) ، أي: بصلاة الظهر، فهل الإبراد بصلاة الظهر أولى أو مراعاة فضيلة أول الوقت؟ جاء في الحديث: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم الصلاة على أول وقتها) ، وجاء الحديث الذي فيه مقال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) ، فهناك أحاديث متعادلة متقابلة.
فالجمهور على أن الأفضل أن تكون جميع الصلوات في أول الوقت إلا الظهر في شدة الحر فيبرد بها، وإلا العشاء فتؤخر إلى ثلث الليل، فهاتان الفريضتان الأفضل فيهما التأخير، كما قال أحمد رحمه الله: كل الصلاة على أول وقتها أفضل إلا الظهر في الحر وإلا العشاء إلى ثلث الليل، أي: لمن لم يشق عليه ذلك.
ومن العلماء من يرجح أن الظهر تصلى في أول وقتها، ولكن يعارضه هذا الحديث الصريح.
والشافعي رحمه الله يقول: يُنظر لحال المصلين، فإذا كانوا يمشون في ظل، ويأتون إلى المسجد بلا مشقة عليهم، فإنهم يصلون الظهر في أول وقتها، وإن كانوا يمشون في الشمس، وفي شدة الحر فإن الأفضل أن يؤخروها.
ومنهم من يقول: يختلف الحكم إذا كانوا يأتون من مكان بعيد إلى المسجد أو يأتون من قُرب المسجد، فيراعى حال المصلين بالنسبة لشدة الحر.
فالقائلون بأن الظهر تؤخر نظروا إلى هذا الحديث، وهناك حديث آخر رواه مالك في الموطأ فيه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة حر الشمس والرمضاء على أكفنا وجباهنا، فلم يَشكُنا، أو: فلم يُشكِنا) أي: لم يسمع شكوانا، وأمرنا بالصلاة في أول وقتها.
فهناك حديث الإبراد، وهناك حديث: (شكونا فلم يشكنا) ، فقالوا: إن حديث: (شكونا) ، ناسخ للإبراد وحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا) قاله صلى الله عليه وسلم في سفر.
يرد عليهم بأن دعوى النسخ تحتاج إلى إثبات التاريخ، والذين يقولون بالإبراد استدلوا أيضاً بحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحضر الظهر، وأراد المؤذن أن يؤذن فقال له: (أبرد أبرد) أي: لا تؤذن الآن، ورجح الجمهور الإبراد بالظهر إذا كان يشق على الناس الحضور إلى المسجد وقت الحر، بألا يكون هناك ما يظلهم وكانت تلحقهم المشقة في مجيئهم إلى صلاة الظهر في وقت شدة الحر.