أما التشريع: فبيانه صلى الله عليه وسلم لما أجمل من كتاب الله، وحكم البيان حكم المبين، جاء قوله سبحانه:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:٤٣] لا ندري كيف نصلي! ولا كم نزكي! فلما صعد المنبر، واستقبل القبلة، وكبر وقرأ وركع، ورفع من الركوع، ونزل القهقرى بظهره حتى وصل إلى الأرض، وسجد في أصل المنبر، وسجد السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل كذلك حتى تشهد، ثم قال:(صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا بيان منه لركن من أركان الإسلام، فيكون هذا البيان حكمه كحكم هذا الركن.
وكذلك الزكاة، بيّن صلى الله عليه وسلم أن من ملك عشرين مثقالاً وحال عليها الحول ففيها الزكاة وهي ربع العشر، ومن ملك مائتي درهم من الفضة وحال عليها الحول ففيها العشر، وبين لأصحاب الأنعام أن من ملك أربعين شاة سائمة طوال العام ففيها شاة، إلى مائة وعشرين ففيها شاتان، ثم بعد ذلك في كل مائة شاة، وبين لأهل الإبل أن في كل خمس من الإبل شاة إلى عشرين، فإذا وصلت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وأنصبة الإبل مسلسلة، وأصحاب البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة.
إذاً: بيانه صلى الله عليه وسلم للواجب في كتاب الله حكمه حكم المبين، فمثلاً: من الأعمال التي تدور بين الجبلة والتشريع في يوم عرفة، قال:(خذوا عني مناسككم) فطفنا كما طاف، وسعينا كما سعى، ووقفنا كما وقف من حيث الزمان والمكان، وأفضنا من عرفات إلى المشعر الحرام، ونزلنا إلى وادي محسر وأسرعنا، وجئنا إلى منى فرمينا ونحرنا وطفنا الإفاضة، ورجعنا فمكثنا في منى الأيام الثلاثة، وأخذنا عنه النسك، ولكن لما كان يوم عرفات:(والحج عرفة) رأيناه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن ظهر راحلته، جاء إلى عرفة قبل الزوال فنزل بالوادي تحت شجرة أراك، فلما زالت الشمس اغتسل وجاء إلى المسجد فخطب وصلى، ثم جاء إلى الموقف ووقف عند الصخرات، وظل على راحلته حتى غربت الشمس.
وهنا يقال: هل السنة أن نقف في عرفات على الراحلة؛ لأنه قال:(خذوا عني) أم أنه وقف على الراحلة لأمر جبلي لا للتشريع؟ وما هي الجبلة؟ أنه أرفق به وأريح له.
فبعضهم يقولون: وقوفه على الراحلة أمر خارج عن حدود الحج.
وهو: لما أراد الحج بعث إلى القبائل: (إني حاج، فمن أراد أن يوافيني، فليوافني وليحج معي) ، فتوافدت القبائل إما إلى المدينة ورافقوه، وربما تلاقوا في مكة أو في الطريق، فهؤلاء الذين قدموا ليروا رسول الله أين يطلبونه في عرفات؟ اختار مكاناً معلماً وهو عند الصخرات، حتى إذا أتى آت يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشار إليه من بعيد أنه ذاك الذي عند الصخرات واقف على راحلته.
إذاً: فعله هذا دائر بين هذا وهذا، وليس واجباً على كل إنسان أن يقف على راحلته أو على سيارته.