شرح حديث:(نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة ... )
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه أن يذبح الباقي) الحديث رواه مسلم] .
عندما حج الرسول صلى الله عليه وسلم، كان علي شريكاً معه في الهدي، وكان علي وأبو موسى الأشعري في اليمن، وكان علي على مخلاف، وأبو موسى على مخلاف، واجتمعا على أن يحجا، فقدم علي رضي الله تعالى عنه بعدد من الإبل هدياً، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ومعه هدي، فاجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما خرج به من المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فشرك علياً معه، فلما كان يوم النحر ذهب صلى الله عليه وسلم لينحر الهدي، فنحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة ثم وكل علياً في أن ينحر بقية المائة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم باشر نحر عدد، ووكل علياً في نحر عدد آخر.
وتكملة الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يأتي بالجزارين من أجل أن يسلخوا تلك الإبل، وأن يقطعوا لحمها، ويقسموها على الحاضرين، وأمره أن يتصدق بجلالها، والجلال جمع جلالة، وهي ما تجلل به البدنة من الغطاء، كانوا يغطونها بقماش مثل الزينة؛ لأنها هدية مقدمة إلى الله سبحانه وتعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:٩٥] ، وكانت تلك الجلال تجمع في منى، ويأخذها بنو هاشم ويصنعون منها كسوة الكعبة، وما يفيض يتصدق به، وكان من عادتهم -كما فعل ابن عمر - أن يحللوها عند خروجها من المدينة، وإذا انفصلوا عن ذي الحليفة نزعوها عنها لئلا تمزقها الشجر، ولا تتسخ بالنوم على الأرض، وإذا قدموا إلى مكة وصعدوا بها إلى عرفات جللوها بها، ونزلوا بها إلى المنحر ثم ينزعونها عنها حتى لا تتلوث بدمائها.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أمر بأن يؤخذ له من كل بدنة بضعة لحم، وجمعت تلك القطع المائة في القدور وطبخت، وشرب صلى الله عليه وسلم من المرق وأكل من اللحم، قال الله:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا}[الحج:٢٨] ، وقالوا: إن الحكمة والسر في أن المهدي يأكل من هديه لكي يختار نوعية الدم الذي سيريقه، ولا يكون مريضاً ولا هزيلاً، بل يتخير ما سيأكل منه؛ ليطعم غيره.
والذين يبحثون وراء الرموز ووراء الحكم من أجل الاستنتاجات يقولون: في فعله صلى الله عليه وسلم هذا حكمة عظيمة وإشارة لذوي الألباب، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، ولم ينحر ستين، ولا سبعين، قالوا: وهذا مقصود؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين سنة، فالسنة التي حج فيها هي تمام الثلاثة والستين، وقولنا: هي مقصودة فيه نوع من التجوز، لكن سواء كانت بالصدفة أو مقصودة فهي إشارة، فكأنه يقول للأمة: هذا عدد أعوام حياتي، أعيش ثلاثة وستين سنة، وفعلاً رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ومكث زمناً غير بعيد، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.