[حكم الماء القليل إذا لاقته نجاسة وخلاف العلماء فيه]
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي لفظ:(لم ينجس) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان] .
تقدم حديث:(إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه) ، وفي هذا الحديث:(إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي رواية:(لم ينجس) ، ومفهوم ذلك: إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس ولو لم يتغير، لكن المشكل: كم القلتان؟ وأي القلال؟ القلتان: تثنية قلة، وجاء في بعض الروايات:(كقلال هجر) ، وقلال هجر كانت معروفة عند الناس، والقلة تساوي قربتين، والقربتان تساوي خمسمائة رطل، ويقول الصنعاني في هذا المبحث: الجمهور على أن القليل لو خالطته نجاسة ولم تغيره فليس بطهور، ما عدا مالكاً، فيقال لهم: ما حد القليل الذي يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تغيره؟ وما هذا القليل الذي تعتبرونه نجساً ولو لم يتغير لأنه قليل؟ قالوا: إذا كان دون القلتين، وتقدير القليل والكثير بالقلتين هو مذهب الشافعي وأحمد، ومالك خارج عن هذا التحديد؛ لأنه اكتفى بتغير الأوصاف ولم يعتبر قلة ولا كثرة، وعند الأحناف تعريفان للقليل والكثير: فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان الماء محصوراً في بركة، أو في إناء، أو في غدير، فإن حركت أحد الجوانب الأربعة ولم يتحرك الجانب الآخر فهو كثير، فمثلاً: إذا جئت من جهة القبلة وغسلت يدك وحركت الماء، فطبيعة الماء أنه إذا حركت سطحه يحصل فيه تموج، والتموج يضطرب حتى يصل إلى الجهة المقابلة، فقال: حد الكثرة أنه إن حركت أحد الجوانب فلا يصل أثر الحركة إلى الجانب الثاني، وهذا مضبوط بحالة وصف لا بمقدار.
وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: حد الكثرة عشرة أذرع من كل جهة، كبركة مساحتها عشرة في عشرة بمائة ذراع، والعمق عشرة أذرع، فهي مكعبة، والذراع متر إلا ربع، إذاً: سبعة أمتار ونصف مكعبة، فهذا حد الكثرة من القلة عندهم.
إذاً: لو كان الماء بهذا الحد (سبعة أمتار ونصف مكعبة) ، وسقطت فيه قطرات بول ولم تغير فيه شيئاً، قالوا: فهو طاهر، ولو كان الماء خمسة أمتار مكعبة، وسقطت فيه نفس تلك الكمية ولم تغيره، قالوا: فهو نجس، فنهدر الخمسة أمتار مكعبة من أجل قطرات بول نزلت وليس لها أي أثر، ومن هنا يقول الصنعاني وغيره: حصل الاضطراب في تحديد الكثرة والقلة، وحديث القلتين متكلم في سنده، ولكن علماء الحديث والفقه تلقوه بالقبول؛ لشهرته وانتشاره واستفاضة القول به -وإن اختلفت القلال كبراً وصغراً- وأخذ به الشافعي وأحمد رحمهما الله.
وإذا نظرنا لمجموع هذه الأحاديث نجد أن الضابط -كما قال مالك - هو التغير، وهذا لم يتغير، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن جئنا إلى التقييد بغير قيد التغير -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- وجدنا الخلاف في حد القلة والكثرة، ومن حد الكثرة بحد معين، ووصل الماء إلى هذا المقدار ولاقته نجاسة ولم تغيره، فهو عنده طهور، فمثلاً: عند الشافعي وأحمد إذا كان الماء قلتين -أي: قربتين كبيرتين- ولاقته نجاسة ولم تغيره فهو طهور؛ لأنه أصبح كثيراً لا ينجس أو لا يحمل الخبث، وإن كان دون ذلك تنجس بهذه النجاسة؛ لأنه ماء قليل، وكذلك عند الأحناف بذلك الحد الذي حددوه.
هذه مذاهب الأئمة رحمهم الله، وبقي الترجيح.
الإمام مالك يخالف الأئمة الثلاثة، فـ مالك اعتبر الوصف، ولم يعتبر قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة اعتبروا الأمرين: القلة والكثرة، والتغيير وعدم التغيير؛ إذاً: اشتركوا مع مالك في التغيير، ومالك يقول: إن تغير لونه قليلاً كان أو كثيراً فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر، والأئمة الثلاثة قالوا: إن لم لم يتغير وكان كثيراً فهو طهور، وإن تغير وهو قليل فليس بطهور، إذاً: اختلفوا مع مالك في القليل، وحد القليل على ما ذكروه، فالخلاف في هذه المسألة بين الأئمة رحمهم الله هو في الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره.
فـ مالك يقول: هو طهور، ولا تقل: طاهر، والأئمة الثلاثة يقولون: ننظر في القلة والكثرة، فإن كان بحد الكثرة فنحن مع مالك ما لم يتغير، وإن كان دون حد الكثرة فنحن نخالف مالكاً ولو لم يتغير.