[المراد بالاستطاعة في الحج]
وهنا يبحث الفقهاء موضوع الاستطاعة من حيث هي: فيرى بعض العلماء: أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن والمال، والمال ماثل في الزاد وفي الراحلة، أي: وسيلة السفر والوصول، وقد تكون الاستطاعة بالبدن فقط ولا مال، وقد تكون الاستطاعة بالمال فقط ولا صحة للبدن.
ومن هنا يقع الخلاف عند الأئمة رحمهم الله فيمن تجب عليه فريضة الحج؟ فالجمهور: على أن الاستطاعة بصحة البدن ووفرة المال، المال الذي يهيئ له الزاد، ووسيلة السفر، مع توفير الزاد لمن تلزمه نفقته حتى يرجع، فإن كان له عيال، أو تبعة مطلوبة منه، فإنه مع اشتراط وجود الزاد له في سفره حتى يرجع يجب أن يكون الزاد موجوداً أيضاً لمن يخلفه في بيته: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإذا وجد ما يكفيه وحده ولا يكفي أهله فليس بمستطيع، والسعي على أولاده في تلك الحالة أولى من السفر إلى الحج وتركهم في ضياع، إذن: الزاد له ولمن تلزمه النفقة حتى يرجع.
والاستطاعة بالبدن ليست شرطاً عند بعض العلماء، فقالوا: إذا عجز عن الحج ببدنه -أي: عجز عن القدرة على السفر، وعنده مال، تعين عليه أن يخرج من ماله ويدفعه لمن يحج به عنه من بلده، فيدفع المال لشخص آخر من بلده؛ ليكون سفر البديل معادلاً لسفر الأصيل من مكان واحد، وسيأتي: أن هذا البديل يجب أن يكون قد حج عن نفسه أولاً؛ لتصح أعمال حجه عن غيره، وسيأتي ذلك في حديث شبرمة، حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يطوف بالبيت ويقول: (لبيك اللهم عن شبرمة، قال: من شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب لي -شك الراوي- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة) .
وسيأتي مبحث الاستئجار للحج، وهل تجوز الأجرة للإتيان بالحج أو لا تجوز؟ وهل هي على البلاغ، أو هي على الإجارة؟ ومعنى البلاغ: أن يأخذ ممن سيحج عنه ما يبلغه الحج حتى العودة، فإن نقص شيء وفَّاه إليه، وإن زاد شيء رده إليه.
أما إذا كانت من باب الإجارة: فعلى ما اتفقا عليه، إن نقص وفىّ لنفسه، وإن زاد أمسك الزائد، وسيأتي في ذلك زيادة بيان إن شاء الله.
وهناك من يقول: الاستطاعة بالبدن فقط، ولو لم يوجد المال، وهذا عند الشافعية بشرط: أن يكون قادراً على المشي، وأن يكون ذا مهنة، أو صنعة، أو عمل يمكن أن يتكسب به مدة سفره حتى يرجع، وقيل لمن قال ذلك: هل أوجب الله على الناس المشي إلى مكة على أقدامهم؟ قال: أرأيت لو كان له ميراث في مكة أكان يتركه؟ قال: لا.
بل يأتي إليه ولو حبواً، قال: كذلك الحج.
وبعضهم يقول: الاستطاعة بالمشي لمن كان قريباً، وليست للآفاقي البعيد، مع أننا وجدنا رحلات وجماعات تخرج من الآفاق وتسافر الأيام والأسابيع والأشهر، حتى يصلون إلى مكة، ولكن في هذا من المشقة والضياع ما يمكن أن يقول الإنسان فيه: ليس هذا في منهج التشريع بصفة عامة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:١٨٥] .
إذاً: لا ينبغي أن نحكم على الناس بأن على المستطيع للمشي من الآفاق -من القارات البعيدة والأقطار النائية- أن يمشي ليحج، وهناك من يقول: شرط الحج ماشياًً للصحيح المعافى المتكسب بمهنته أن يضمن غالباً أن يكون عمله في اليوم الواحد يكفي لمئونة اليومين، ولماذا؟ احتياطاً؛ لأن هذا الصحيح قد يمرض؛ ولأن تلك المهنة قد تتعطل في يوم من الأيام، وليس بلازم أن يجد عملاً لمهنته في كل يوم ما يكفيه، فإذا كان أجر عمله يكفيه لمئونة يومين، فلو قدر أنه مرض بعض الأيام فسيكون قد توفر عنده زاد بقية الأيام.
وهنا لفتة فقهية للمذاهب الاقتصادية، بأن تقييم الأشياء -كلها- في العالم ليست العملة، التي ترتفع وتنزل في (البورصات) ، وفي الأسواق المالية، ولكن تقييم الأشياء -حقاً- إنما هو بكسب العامل في اليوم، أجرة هذا العامل غالية أو رخيصة، وهذه أمور نسبية، فقد تكون أجرة عامل في قطر درهماً، وقد تكون في قطر آخر عشرة دراهم، وهذا فرق كبير، ولكن نسأل: العامل الذي يعمل بدرهم في بلد، كم يكفيه هذا الدرهم؟ فلربما كان يكفيه لقوت يومه؛ لرخص الحاجات عنده، والذي يعمل بعشرة دراهم، أتكفيه لقوت يومه -في بلده- أو لقوت يومين؟ فربما لا تكفيه بسبب غلاء الأسعار، إذن: التسعير الحقيقي والتقويم الحقيقي، لقيم الأشياء، إنما هو كسب العامل اليومي، فإذا كانت له أسرة وعائلة فليكن ذلك أيضاً في الحسبان.
ومن هنا كان مأخذ الشافعية بقولهم: الاستطاعة قد تكون بالمشي إن كانت له مهنة يتكسب منها، ويكسب بها في اليوم ما يكفي نفقة يومين.
وزاد بعض المالكية: إن الفقير المعافى الذي يعيش في بلده على التكفف، أي: يمد يده ويبسط كفه للناس، ويعيش على السؤال، إن تيسر له في سفره أن يجد من يسأله، ويعيش كما يعيش في بلده؛ يعتبر مستطيعاًً، وعليه أن يصحب القافلة بالسؤال ليحج.
وهذا القول فيه ما فيه.
وقد قال العلماء: من لم يجد مالاً، ووجد إنساناً يدفع له المال من عنده هبة ليحج، قالوا: ليس بواجب عليه أن يقبل، خشية أن تكون فيه عليه منَّة.
وهنا يمكن أن نأخذ سر التعبير في كتاب الله حيث قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:٩٧] ، ولم يقل: من استطاع إليه وصولاً؛ لأن الوصول إليه قد يكون من عنده، أو قد يكون من عند غيره، أما السبيل: فلا يكون إلا من عنده هو، وعلى هذا فالجمهور على أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن وبالمال معاً.
وقال الشافعي: من استطاع ببدنه ومات ولم يحج، فإن على الورثة إخراج جزء من ماله قبل قسمة التركة لمن يحج عنه من بلده؛ لأن الشافعي رحمه الله يرى تقديم الحقوق المتعلقة بالتركة ومنها حق الله؛ فلذلك قدمه على تقسيم التركة، وبالمناسبة: فإن الحقوق المتعلقة بالتركة منها ما هو دين للناس، ومنها ما هو دين لله، والدين للناس: دين موثق، ودين غير موثق، وكذلك حق الميت في التجهيز، وكذلك الوصايا، ثم بعد ذلك كله الميراث، فإذا كان مديناً، وكان قد أوصى، وعليه حق لله: في كفارة، أو نذر، أو حلف، وترك ما يكفي واحداً من ذلك فقط، فأيها يقدم؟ عند الحنابلة: تقدم مئونة تجهيزه؛ لأنه حقه هو، كما لو كان مفلساً وعليه دين للآخرين فإنه يباع ما يملك في دينه إلا ثيابه ونفقته، فحقه الخاص مقدم.
الشافعي يقول: يقدم في ذلك كله حق الله، أما تجهيزه فعلى بيت مال المسلمين، واستدل على ذلك بما سيأتي في قصة المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أمها فقال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها، قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
قال الشافعي قوله: (دين الله أحق) هذا أفعل تفضيل.
وغيره يقول-وهم المالكية-: ديون العباد مقدمة؛ لأن حق الله مبني على المسامحة، وحق العباد مبني على المشاحة، والشهيد يحبس في قبره في دينه إلى آخر ذلك، ولذا قال الشافعية: إن من مات وكان مستطيعاً للحج فلم يحج، أخرج من تركته ما يحج به عنه قبل أن تقسم التركة، أي: قبل حق الورثة والوصايا، وغير ذلك.