[الحث على قضاء الدين وعدم التهاون به]
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله عن الشهادة وما تكفر من الذنوب فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ قال: نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك) فلو تأملنا يا إخوان! لوجدنا أن الدنيا بكاملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمؤمن يكون مديناً لمؤمن آخر بعشرة دراهم، أو درهمين، أو درهم، يحبس فيها؟! يا سبحان الله! إذا كان الأمر كذلك فينبغي على المؤمن أن يتحرى، وأن يفك نفسه قبل أن يحتاج إلى من يفكه، وإن كان عاجزاً أوصى.
وتقدم لنا أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الموتى في أول الأمر، وسؤاله عن الميت فإن كان عليه دين، قال لأهله: (صلوا عليه) حتى جيء بميت وقالوا: عليه ديناران، فقال أبو قتادة: هما عليَّ، وتأكد منه صلى الله عليه وسلم فلما تحملها أبو قتادة صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
الحقوق المتعلقة بتركة الميت خمسة، حق الميت في تجهيز كفنه وما يلزم لذلك حتى يدفن حقوق دينية، وتنقسم إلى: دين للعبد، ودين لله سبحانه وتعالى، وسواء كان دين العبد موثقاً برهن أو غير موثق، فعند الشافعي رحمه الله يقدم على كل شيء سداد دينه، حتى يقدم على تجهيزه، وتجهيزه يكون من بيت مال المسلمين، وذلك لأنه لو كان في الحياة معدماً ليس معه ما يأكل، فنفقته من بيت مال المسلمين.
وقال أحمد: يقدم تجهيزه؛ لأنه أحق بنفسه، كما لو كان مفلساً فللغرماء بيع ما عنده ولكن تترك له ثيابه.
إذاً: قضاء الدين أحق، قال به الشافعي، ابدأ بنفسك قال به أحمد، إلى غير ذلك، ثم تأتي بقية الحقوق من وصية وميراث.
فيبادر بسداد دينه قبل تجهيزه عند الشافعي، وإذا كان المال موجوداً فباتفاق الجميع لا نجعله مرهوناً بدينه بل ينادى في الناس: من كان له حق عند فلان فليتكلم، وهذا الذي ينبغي على أولياء الميت أن يبادروا به ليفكوه.
وقضاء الدين له شواهد كثيرة تؤكد أهميته، فهذا ثابت بن قيس خرج في غزوة كان يقودها خالد بن الوليد، فجاء إلى رجل وأيقظه من النوم، قال: يا فلان! أنا فلان فاسمع مني، إن فلاناً مر عليَّ وقد خلع عني درعي، فوضعه في آخر المعسكر، ووضع عليه برمة، وعلى البرمة رحله، فمر خالداً فليأخذ درعي من عنده، وإذا جئت إلى المدينة فأخبر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن لفلان عندي عشرة دراهم في قرن، وعبدي فلان عتيق، فجاء الرجل إلى خالد وأخبره، فدعا الرجل الذي سماه وقال: أين رحلك؟ قال: في مكان كذا، فأرسل خالد رجلاً من الحاضرين وقال: اذهب إلى رحل فلان وانظر ماذا تحته، فذهب فوجد الدرع، فجاء به، فقال خالد: هذه قرينة، فكتب إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه: لقد حدث كذا وكذا، فاستدعى أبو بكر رضي الله عنه الرجل وسأله: ألك دين عند فلان؟ قال: بيني وبينه الله، وقد سامحته فيه، قال: أخبرنا ما هو؟ فأخبره أنه عشرة دراهم، فأمر بسدادها حالاً، ثم دعا العبد فأعتقه.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: وهذا من فقه أبي بكر عنه؛ أن أنفذ وصية الميت لما رأى من القرينة.
وهكذا أيها الإخوة! ينبغي على الإنسان أن يعنى بنفسه وأن يتخلص من دينه أولاً وقبل كل شيء، فإذا لم يكن عنده سداد وجب عليه أن يكتب، وهذا من دواعي كون الوصية واجبة، فإنها تكون واجبة، وتكون مندوبة، فحين تكون هناك ودائع، كديون ليس فيها سندات، ولا صكوك، ولا شهود، فعليه أن يكتب ذلك ليتولى أهله إنفاذها.