[البكاء في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) ] .
هذا الصحابي الجليل يروي لنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل، أي: القدر الكبير الذي يغلي.
والأزيز من أسماء الأصوات، كما تقول: خرير الماء، وتقول: صفير الطيور، وزقزقة العصافير، وصلصلة الجرس، وغليان الماء.
والألفاظ التي فيها تكرار الحروف تدل على حركة، أو على صوت، قالوا: الأزيز هو: صوت يكون داخل الصدر لانفعال الإنسان، ولا يكون باللسان ولا بالهمهمة، إنما يكون لانفعال داخلي في صدر الإنسان، وسبب ذلك هو انفعال نفسي، كأنه يريد البكاء ويحبس بكاءه، فهو صوت في جوف الإنسان وفي صدره.
فهو صوت يعيه السامع، فهل هذا كلام مما نهي عنه، أم أنه خارج عن حد الكلام فلا يبطل الصلاة؟ قالوا: إن البكاء بالعين بدون التلفظ باللسان، والأزيز في الصدر بدون حرف يخرج منه لا يبطل الصلاة، وهي حالة -كما يقولون- روحية تغلب على صاحبها ولا يمكلها، وتتحكم هي فيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت: إنّ أبا بكر رجل أسيف لا يتمالك عينيه أن يقوم مقامك، فقال: مروا أبا بكر، فإنكن صواحب يوسف) .
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لها نظر بعيد جداً، وله أثره في الخلافة؛ فقيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه إماماً بالناس بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مرضه يدل على أن الذي سيتولى الصلاة بعده هو الذي سينيبه صلى الله عليه وسلم ويستخلفه بعده، وإن لينص عليه، وهذه واحدة.
والثانية: إذا كان لك شخص عزيز كريم في عمل، فسافرت ورجعت ووجدت إنساناً غيره في هذا العمل فحالاً تتساءل بلهفه: أين فلان؟ وتخاف أن يكون وجود فلان هذا كناية عن وفاة الأول، وهذا قام مقامه، فالقلب يتأثر حينما يرى شخصاًآخر يقوم مقام من تعلق قلبه به، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها حسبت حسابين: الأول: حسبت أن يحزن الناس حين يرون أبا بكر قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نوع من التشاؤم، وأي مسلم يجد شخصاً في مكان رسول الله يتأثر ويتألم؛ لأنه لا يريد أن يغيب رسول الله عن هذا المقام.
والثاني: أدركت أم المؤمنين عائشة أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس مقدمة لاستخلافه، ولذلك لما اجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السقيفة صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أيها الحاضرون! هذا أبو عبيدة، وهذا عمر، فاختاروا من شئتم، وبايعوا له ولا تختلفوا، فقال عمر: سبحان الله! ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا بالصلاة، ولا نرتضيك لدنيانا! مد يدك لأبايعك فبايعه، فكان أمره صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس فيه إشارة إلى أنه هو الذي سيتولى الأمر من بعده.
فإذا كان الأمر كذلك فأم المؤمنين عائشة خافت إذا أمر رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس، أن يقال: هي التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم أباها؟ ولا تسلم من التهمة، وحفصة موجودة، وعائشة موجودة، وهذه بنت عمر وهذه بنت أبي بكر، فأقل شيء أن يقال: هي التي من وراء هذا، وهي التي سعت، وهي السبب، فلما كان هذا الاتهام وهذا التساؤل محتملاً -وهو خطير حين تتهم أنها هي وراء اختيار أبيها- أعلنت للناس عند رسول الله قولها له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء، فكأنها تقول: لا يصلح لذلك، فإذا حصل ذلك تقول: أنا ليس لي ذنب، كان رأيي من قبل أنه لا يصلح لهذا.
ومن هنا ندرك معنى قوله: (إنكن صواحب يوسف) ، فما الذي جاء بصواحب يوسف إلى هنا؟ والجواب: لأنهن أخفين شيئاً وأظهرن شيئاً آخر، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصد عائشة وأنها تريد أن تدفع عن نفسها شبهة التهمة بأن لها سبباً في تقديم أبي بكر على غيره.
والشاهد من هذا قول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء) ، فالبكاء لا يبطل الصلاة، والبكاء والأزيز يكون في حالة الخشوع، وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد يكون في الصلاة، وقد يكون خارج الصلاة، وهي منح يمنحها الله سبحانه وتعالى للمؤمن الصادق، ومن علامات ليلة القدر رقة القلب، كما قالت عائشة: ألا تجد في نفسك أحياناً رقة القلب ودمعة العين؟ فذاك إذا صافحك جبريل، فأحياناً الإنسان يحس برقة قلبه، وتدمع عينه ولا يعرف السبب، وقد يكون عقب قراءة آية، أو عقب تأمل في موقف، غير ذلك، وقد يكون لمجرد انطلاقه بروحه في عالم ملكوت المولى سبحانه، فيجد عالماً بعيداً يرقق قلبه، ويدر دمعته.
فالإنسان قد يعرض له ما يرقق طبعه، ويزيد قوة روحه، فتحصل له هذه الحالة، فقد يبكي ويفرج عن نفسه، وقد يكتم البكاء، قال ابن تيمية رحمه الله: القوي الذي يكظم ذلك، ويقدر على نفسه، بخلاف هؤلاء الذين يصيحون ويصرعون، ويقولون: المخلص المكثر من العبادات قد يحدث له حالة صرع وغيبوبة مع الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لضعفه، وقوي الشخصية هو الذي يتحمل هذه النفحة، ويتحمل هذا الانفعال، ويتماسك.
فأزيز صدره صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لشدة خشوعه بين يدي الله، ولذة مناجاته لله، فإذا حصل مثل هذا للإنسان وهو في صلاته لا يبطلها، والله تعالى أعلم.