روايات هذا الحديث وطرقه تختلف في الإيراد، ففي بعضها وصف حالة مجيئه:(يضرب صدره، وينتف شعره، وينادي بالويل: هلكت وأهلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان - (واقعت أهلي) كناية عن الجماع، وهو حقيقة في الوطء، بخلاف مقدماته- فقال له صلى الله عليه وسلم: أتجد رقبة فتعتقها؟ فضرب على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا هذه.
قال: أتستطيع صوم شهرين متتابعين؟ قال: والله! ما أهلكني إلا الصوم -أنا ما استطعت صيام رمضان فكيف أصوم شهرين متتابعين؟! - قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا -والله- ما عندي.
قال: اجلس.
فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -تنطق هذه الكلمة بتسكين الراء أو فتحها (عرْق أو عرَق) ، وهو نوع من الأوعية المصنوعة من خوص النخل، ويسمى قفة أو مقطف، ليس كبير الحجم- فناداه وقال: خذ هذا وتصدق به عن نفسك.
فقال: يا رسول الله! أتصدق به؟! أعلى أفقر منا؟! والله -يا رسول الله- ما بين لابتيها أفقر مني) ، واللابتان: هما الحجارة السوداء المحيطة بالمدينة، ومعروفة بدايتها ونهايتها، فهي تأتي من الغرب من جهة سلطانة، وتدور من وراء قباء إلى قربان إلى أن تأتي إلى قريبة، وتقطع الخط إلى أن تنزل إلى المغرب مرة أخرى، وكما يقول بعض المؤرخين: اللابتان محيطتان بالمدينة كالحدوة للحصان، وليس لها إلا فتحة واحدة كالحدوة، وتلك الفتحة هي مجرى وادي العقيق، وهو المحل الذي احتفر فيه صلى الله عليه وسلم الخندق؛ لأن اللابتين حصن طبيعي للمدينة، لا تقوى الخيل ولا الإبل أن تقطعه، يعسر المشي عليه، فكان مدخل المدينة الوحيد يأتي من أبيار علي، ومع وادي العقيق إلى سلطانة، ويدخل من هناك من باب الشام، وهناك كان محل الخندق في طرف الحرة من جهة عمائر أو فلل المدني، ويمتد إلى أطم الشيخين من الجهة الأخرى.
وعلى كل فقال:(ما بين لابتيها أحد أحوج إليه منا -هذا الذي تريدني أن أتصدق به لن أجد فقراء ولا محتاجين أشد حاجة إليه منا- فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: قم فأطعمه أهلك) .
إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف أخذوا بهذا النص، وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر للوقاع، ولم يأمر أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:(أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُكَفِّر) فهذا النص: (أفطر) ، ولكن من صنيع مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب:(رجل أفطر فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكفر) ، وجاء بعده بهذا الحديث:(أعرابي جاء وقال) ، فبعض الناس يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث الأعرابي ليبين نوعية الفطر الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه.
والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص عليه- فعليه الكفارة، والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.