[طرف من أحوال الناس في الصلاة]
يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله أن رجلاً جاء وقال: يا إمام! أنا دفنت مالاً ونسيت، فماذا أفعل؟ وكيف أهتدي إليه؟ قال: إذا جاء ثلث الليل الأخير فتوضأ وصلِّ ركعتين، ولا تحدث نفسك فيهما بشيء، ومن الغد تأتيني ففعل الرجل بنصيحة الإمام، وفي السجدة الأخيرة آخر لحظة عجز عنه الشيطان، فجاءه وقال له: أنسيت المال الذي أنت دافنه؟! هو في المحل الفلاني، فاذهب وخذه قبل أن يضيع عليك، فعجّل الصلاة وذهب مباشرة إلى المال واستخرجه، وجاء إلى أبي حنيفة قائلاً: جزاك الله خيراً وجدت مالي، فتعجب الحاضرون وقالوا للإمام: ما علاقة صلاته ركعتين بالدلالة على ماله؟! فقال: أنا لم أدله، ولا أعلم الغيب، ولكن أعرف أنه إذا أخذ يصلي في ركعتين من هذا النوع، فهما هلكة على الشيطان، ولا يمكن أن يمكنه من ذلك، فحاول معه فطرده، حتى جاءه عن طريق حاجته فأصغى إليه، فدله عليها فذهب وأخذها.
ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار في هذا الموضوع عن عمر بدون ذكر السند- أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وأعتقد أن هذا بين بين، فتجهيز الجيش ليس بالأمر الهين، لكن لعله كان يخطر على باله تساؤلات، فإنه مسئول عن جيش مرسل للقتال، فلا يمكن يسلم عقل عمر في نوم ولا في يقظة، فهل إنسان مسئول يرسل جيشاً إلى عدو يزيد أضعافاً على عدد جيشه وقوته وينساه، ويغفل عنه! فما هذا بصحيح.
فلا بد أن يكون على باله، فإذا قام في الصلاة فلابد أن يخطر على باله، فهل ما يخطر على بال الإنسان وهو في الصلاة يبطل الصلاة؟ بإجماع المسلمين لا يبطلها، ولكن بعض المصلين -مع الأسف- إذا كبر في الصلاة إذا به يجري عمليات حسابية، ولقاءات مع أشخاص، ويستعيد ذكريات أعوام ماضية، أو يفكر في مشاريع مستقبلة، ولا يدري إلا وقد سلّم الإمام فيسلّم معه.
وقد سئل الشيخ ابن الصلاح -غفر الله له- عن بعض الأئمة أنه سها في الصلاة، فاختلف هو والمصلون، وكان هناك شخص يتوسمون فيه العقل والسمت، فرجعوا إليه فقال: والله ما أدري، أنا كل يوم حين أكبر آخذ في طريقي إلى الشام، وأنزل في المحل الفلاني، ثم المحل الفلاني، ثم نبيع ثم نرجع، وكل مرة أصل إلى هنا وأعود والإمام في السلام، أما هذه المرة فقد سلّم الإمام وأنا في نصف الطريق.
فمثل هذا ماذا نقول في صلاته؟ (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها) .
والكلام في هذا الباب قد يثقل على الناس، ويخيفهم على صلاتهم، ولكن لنعلم أن هذا من تتمة وكمال الصلاة، وكما ذكرت سابقاً فالناس في هذا يتفاوتون كما بين الثرى والثريا، فهناك شخص تسبح به روحه حتى إنه لا يرى ولا يسمع إلا ما يقول بين يدي الله، مثل ذلك الذي قيل له: كيف تصلي يا فلان؟ قال: أجعل الكعبة أمامي، وملك الموت ورائي، والجنة عن يمني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، وأرى أنها آخر صلاتي من الدنيا.
فهذا الذي يكون على هذا الحال في صلاته هل هو مثل الذي يذهب ويأتي في طريق الشام ويبيع ويشتري؟ لا يستوون.
ونختم هذا البحث بالحديث الصحيح الذي يدل على أن العبد إذا صلى، وأدّى الصلاة موفورة أركانها، وشروطها، ولوازمها، وصعدت إلى السماء ولها طيب، وفتحت لها أبواب السماء، وقالت: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضعيها في أركانها، وفي واجباتها، وفي سننها، لُفّت كما يلف الثوب، وسدت دونها أبواب السماء، وردت وألقي بها في وجه صاحبها) .
وفرق بعيد جداً بين هذه الصلاة وتلك الصلاة، ولهذا نقول مرة أخرى: إن نوافل العبادات ضمان للنقص في الأركان، وكل فريضة لها نوافلها، وجاء في الحديث: (أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة) ، فأول ما ينظر فيه من العبادات الصلاة، وفي الحقوق والمعاملات الدماء، فإذا نُظر في صلاة العبد فكانت وافية وكاملة قبلت وقبل معها غيرها، وحمل عليها، وإذا كان فيها نقص يقول المولى سبحانه: انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم.
فيقول: اجبروا نقص فريضته من نافلته، وهذا من واسع فضل الله سبحانه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما زاد في هذا الخبر: (وكذلك بقية العبادات، أو بقية الأعمال) .