للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نجاسة الدم المسفوح]

الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:٣] ، قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟ قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛ فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره) .

إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ... ) ، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقوله: (اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض.

ونأتي إلى كتاب المحلى لـ ابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك الدم) ، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-، وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم - ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ (ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم.

وأيضاً أتينا إلى المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى.

إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.