[مناسبة حديث الأعرابي لباب المياه]
لقد ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب المياه، وهو صالح أن يكون في باب إزالة النجاسة، وصالح أن يكون في باب المياه، فلماذا أتى به في باب المياه؟ أتى به ليبين أن هذا بول رجل، وهذا ذنوب من ماء، فلو قدرنا أن الذنوب من الماء قدره (١٢ لتراً) ، وقدرنا أن بول الأعرابي نصف لتر، فستكون نسبة البول إلى الماء واحد إلى أربعة وعشرين، وهذا الذنوب في حدود القلة؛ لأن الذين قالوا بالكثرة والقلة حددوا الكثرة بقلتين من قلال هجر، والقلة قربتان، والقربة خمسمائة رطل، فستكون القلة ألف رطل، والآخرون قالوا: عشرة أذرع في عشرة، إذاً: هو في حدود القليل بالنسبة لمن حدد الماء بالكثرة والقلة، فهذا الماء في حدود القلة، وقد أريق على بول الأعرابي لتطهير النجاسة التي أحدثها بول الأعرابي في أرض المسجد، وتطهرت الأرض بالذنوب.
إذاً: هذا ماء في حدود القلة، وطهرت به الأرض من نجاستها، فيكون الماء القليل قد طهّر النجاسة وهو لم يتنجس، بمعنى: لو أن ماء الذنوب حينما لاقى البول على الأرض تنجس؛ فلن يطهرها؛ لأنه صار نجساً.
وإذا كانت الأرض رخوة تشرب الماء، فهل نصب الماء تدريجياً بحيث تشرب الأرض الصبة الأولى فتخف نسبة البول في طبقة الأرض العليا، ثم نصب مرة ثانية فتذهب نسبة البول في التربة أكثر، ثم نصب مرة ثالثة فتذهب أثر البول بالكلية، ثم نصب بقية ماء الذنوب وقد طهرت التربة، ويكون الذنوب قد طهر التربة؟ أم نصب الماء مرة واحدة حتى ينتهي ماء الذنوب ويتلاقى الجميع على الطبقة الأولى من التربة؟ قالوا: الحديث ليس فيه تفصيل لسكب الماء صبة بعد صبة، وهل الأرض تتشرب أو لا تتشرب، فإذا صب الذنوب مرة واحدة على موضع البول وتشربته الأرض فقد طهرت، ولكن الأول أدعى لطهارتها أكثر.
وإذا كانت الأرض صلبة ليست رخوة تتشرب الماء فماذا نفعل؟ هل نأتي بالذنوب ونسكبه عليها؟ فلو بال أحد في الرخام، وجيء بماء ربع لتر، وصب على البول الذي في الرخام، فسوف تتسع النجاسة، ولو ترك البول لكان في مساحة مترين أو ثلاثة، فلو صببنا الذنوب فإنه سوف يوسع الدائرة حتى تصل إلى عشرين متراً مثلاً، فالطريقة المثلى لتطهير البول عندما يحصل من الأطفال أو من بعض العجائز المرضى: أن يؤخذ حالاً بالأسفنج ويفرغ في إناء، ثم يصب الماء الطاهر من الإبريق على الرخام، وينشف بالأسفنج، ثم يغسل في الطست، وكأنه يغسل إناءً من النحاس أو غيره، ولا يصب الذنوب حتى يتسع الأمر.
ومن هنا فرأي الجمهور أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة في التربة يطهرها، والأحناف يروى عنهم أنهم يقولون بنقل التربة، ويذكرون في ذلك حديثاً، ولكن الأئمة رحمهم الله وعلماء الحديث لا يثبتون سند هذا الحديث، وهو أن تحفر التربة وتنقل، ثم بعد ذلك يصب الذنوب، وأجاب الجمهور عن ذلك أنه إذا حفرنا التربة وأخذنا التراب المتنجس فليس هناك حاجة إلى صب الماء وقد نقلنا التراب المتنجس.
والمالكية الذين قالوا بعدم تحديد الماء بقليل أو كثير وإنما العبرة بالأوصاف، قالوا: هذا ماء قليل طهر النجاسة ولم ينجس، والجمهور قالوا: ليس لكم دليل على هذا، وهناك فرق بين ملاقاة الماء للنجاسة، وملاقاة النجاسة للماء، فما الفرق بينهما؟ فمثلاً: إذا كان هناك طست فيه ماء، فوقعت النجاسة في الماء، فهذه ملاقاة النجاسة للماء، لكن إذا كان هناك ثوب متنجس، فجئت بالماء وصببته على محل النجاسة في الثوب، فهذه ملاقاة الماء للنجاسة، والفرق بينهما: أنه حينما تلاقي النجاسة الماء تتلاشى فيه أجزاؤها، ويبقى الماء حاملاً للنجاسة، لكن حينما يلاقي الماء النجاسة، فكلما جاء جزء من الماء على النجاسة تلاشت أمامه، ويستمر الصب على النجاسة من هذا الماء الذي خالط النجاسة في مكانها، فهو تنجس بها لكنه يزيلها ويخفف أثرها، إلى أن تأتي آخر دفعة من الماء على محل النجاسة وقد انتهت منه النجاسة وانمحت وذهبت مع الماء السابق.
إذاً: أول الماء عند ملاقاته للنجاسة يكون مختلطاً بها، وحكمه حكم النجاسة، لكن آخر الماء -ولو كان لتراً واحداً- لا يأتي لمحل النجاسة إلا وقد زالت النجاسة، وقد يبقى في المكان آثار لا ترى بالعين ولا تشم بالأنف، فيكون آخر الماء قد أذهب آثار النجاسة في المحل، ولم تؤثر النجاسة في الماء.
إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله دليلاً لمذهب من لا يرى التحديد بكثرة أو قلة، ولكن الذين يرون التحديد قالوا: فرق بين ملاقاة النجاسة للماء، وملاقاة الماء للنجاسة، وقالوا: نحن نعارض في ملاقاة النجاسة للماء، ولا نعارض في ملاقاة الماء للنجاسة.