سألت والدنا الشيخ الأمين عن صنيع مالك في الباب، حيث قرن حديث أبي هريرة مع حديث قصة الأعرابي، ولم أخذ مالك الكفارة في غير الجماع مع أن النص فيه:(واقعت أهلي) ؟ فقال: مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله العلماء بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[المائدة:٩٥] ، فهذا حكم موجود، ولكن بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ}[المائدة:٩٥] ، لكن تحقيق المناط في هذه القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما هو؟ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ}[المائدة:٩٥] فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما هو جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق المماثلة في كل صيد على حدة هو تحقيق المناط.
لكن التنقيح: هو كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من التبن، فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا هو التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات، ومالك زاد تنقيحه عليهم، والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف المناسب له، فقوله:(جاء رجل -هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب صدره، ينتف شعره -هل هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة أو كونه يضرب الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه تنقيحة تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت) ، فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت وأهلكت؟ لا، إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي غاية البساطة، وأسر إلى رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف المعتبر، وهو (واقعت) ، ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي زيادة، ما هي الزيادة -يا مالك - على هذا؟ قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه تستوي فيها (واقعت) و (أكلت) .
ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه القضية: أن من انتهك حرمة رمضان فعليه القضاء والكفارة.