[دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل الصدقة جهد المقل)]
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول) ، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم] .
لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته، فهو مقل، ويجهد فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا سواء بل هما على طرفي نقيض.
فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك، وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده، أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في يده.
ومن هنا قال العلماء: هذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء الذين يعنون بمختلف الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في طريقه المهيأ له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش عيشة المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء.
وقد جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال عمر: لأسبقن أبا بكر، وكان أبو بكر سباقاً.
فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك يا عمر؟ قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو بكر بكل ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر!) .
فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل) ؟ لم يبقِ شيئاً، وعمر أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل لمن لا يندم على فعله، ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم، ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة، ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه واجبات، ولا ينبغي أن يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى وأحق.
إذاً: يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] .
إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس وغناها، وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته اليقينية بالله.
وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل فتقول لـ بريرة: أعطي السائل، فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل، وإذا جاء الإفطار يرزق الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب كيف يرزق الله؟ مستبعدة! فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!! فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا بجانبها شاة مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه، والله ما قد أهدى إلينا من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد بالله حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وهكذا يختلف الناس، وتختلف الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا أراد الإنسان منا أن يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك حقوق؟ وعلى حسب ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فلا تأخذه الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه! إذاً: هذان الحديثان مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة يقينهم، ومدى حقوق الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.