قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر) .
متفق عليه] .
نحن نعلم جميعاً أن أيام السنة إنما هي دورة فلكية للشمس سبتها وأحدها وخميسها وجمعتها؛ كلها دورة من شروق الشمس إلى غروبها، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يفضل بعض هذه الأيام على بعض لما تشهده من الأحداث، وقد فضل شهر رمضان على بقية الشهور وهو أيضاً دورة زمنية وإن كان في جملته دورة قمرية فأيامه دورة شمسية، ففضله على غيره من الشهور لما شرفه به من إنزال القرآن الكريم فيه، بل أنزل فيه جميع الكتب السماوية، وكذلك شرف وفضل من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام السنة الفردية يوم عرفات، بل فضل من يوم الجمعة الذي هو فضيل ساعة من الساعات فيه، وفضل ليلة من شهر رمضان المبارك على غيرها، وجعلها خيراً من ألف شهر، كل ذلك لما تشهده تلك الأيام والليالي من الأحداث.
ويوما العيد في الإسلام كرمهما الله وشرفهما وجعلهما يومي مكرمة لعباده، ولكأنهم في هذين اليومين في ضيافة المولى سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لوفاء المسلمين بما عهد الله إليهم، وقيامهم به خير قيام، فكان هذا جزاءً لحسن عملهم وإكراماً لطاعتهم ربهم، ويوما العيدين هما: يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم الفطر فكما نعلم جميعاً أنه يأتي على رأس تمام صيام شهر كامل، فالأمة تصوم شهر رمضان، وتراقب ربها فيه، وكما في الحديث القدسي:(إلا الصوم فإنه لي) ، وهذا جاء في بيان اختصاص الصوم بالمولى سبحانه مع أن كل الأعمال لله، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:١٦٢] ، ولكن خصوص الصوم يقول عنه المولى في الحديث القدسي:(يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فيكون في الخلوة بعيداً عن الناس، وأمامه شهي الطعام وبارد الشراب، وهو جائع وعطشان، لا يرده في خلوته من الفطر إلا مراقبة الله سبحانه، ومن هنا كان الصوم يعود ويورث التقوى؛ لأن التقوى هي اتخاذ الوقاية مما يغضب الله سبحانه وتعالى، فدوام هذه المشاهد يجعل عند الإنسان قوة مراقبة، ويقرب من المولى سبحانه وتعالى أكثر وأكثر، ويزيل الحجب والحواجز التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى، فكأن المولى سبحانه يقول لعباده: أمرتكم فامتثلتم، وكلفتكم فأطعتم، وها أنتم أتممتم صيام الشهر، فهلموا إلى ضيافتي، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر؛ لأن من صام يوم الفطر كأنه يقول: يا رب! أنت جعلت هذا اليوم مأدبة لعبادك وأنا في غنىً عنها، وإذا استغنى عن مأدبة المولى فإن هذا تكبر، وهذا تعالٍ على الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يقبل الله صوم هذا اليوم.
وكذلك عيد الأضحى نادى الله في الناس بالحج فجاءوا من كل فج عميق، وأدوا مناسكهم، وأدوا طاعة الله في تلك المواقف الكريمة، ثم أفاضوا من عرفات والحج عرفة، وهو ذاك المشهد الكبير الذي يتجلى المولى سبحانه فيه لأهل الموقف -كما أشرنا سابقاً- فيباهي بهم الملائكة ويقول: ماذا يريد العباد، ولماذا جاءوا إليّ؟ فيقول الملائكة: ربنا! إنك تعلم أنهم جاءوا إليك يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول متفضلاً:(أشهدكم أني قد غفرت لهم) ، وقد أشرنا مراراً إلى الحكمة في سؤال المولى للملائكة في ذلك اليوم، وكما يقول البلاغيون: ليس المراد مقتضى السؤال، ولكن المراد لازم الفائدة؛ لأن السؤال قد يراد منه فائدة الخبر، كإخبار السائل عن مجهول بتعيينه، فإذا قلت: هل جاء زيد؟ وأنت لا تعلم، فيكون الجواب: نعم جاء، وقد يكون السؤال عن لازم الخبر وليس عن الخبر، كأن يكون السائل عارفاً أن زيداً جاء، لكن المسئول مدين للسائل، ووفاء الدين يحل عند مجيء زيد، فهو يريد بسؤاله عن مجيء زيد وعدم مجيئه لازم الفائدة، ولازمها هنا أن موعد الدين قد حل؛ لأن موعد قضاء الدين مشروط بمجيء زيد وقد جاء، فالله سبحانه وتعالى في هذا السؤال لا يريد فائدة الخبر؛ لأنه يعلم بحالهم.
ويقولون: أنه كان في الأرض عوالم قبل آدم وقبل الإنس وهم الحن والبِن والجن وأمم وقد وقع بينها قتال، وإبليس كان من جند الله أولاً، فالمولى سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم قال:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا}[البقرة:٣٠] أي: مستفسرين لا معترضين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة:٣٠] أي: مثل الذين رأيناهم من أول؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:٣٠] فإذا أردت أن تجعل فيها خليفة للذكر والتسبيح فنحن نسبح، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠] وأظهر الله سبحانه وتعالى شرف هذا المخلوق الجديد، إذ علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني؟ قالوا: سبحانك، فقال: يا آدم! أنبئهم، فكان هناك عرض على الملائكة بجعل خلافة في الأرض، والملائكة تخوفت لما شاهدت من قبل، وأشفقت على هذا المخلوق الجديد أن يفسد فيها ويسفك الدماء، فطمأنهم الله وقال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠] .
فجاء آدم وهبط إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وعمرت الأرض، وجاء بنو آدم إلى عرفة شعثاً غبراً، وهنا كأن المولى يريد بهذا السؤال لازم الفائدة أي: أنتم كنتم تظنون أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فها هم جاءوا شعثاً غبراً مجردين، تركوا أوطانهم وأولادهم وأموالهم وتحملوا في سبيل تلك الرحلة المشاق، ماذا يريدون؟ هل يريدون الإفساد في الأرض، أو يريدون سفك الدماء؟ فهذا التساؤل كأنه تنبيه للملائكة على ما كانوا تساءلوا عنه سابقاً ثم قال:(أشهدكم -والله خير الشاهدين- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم) ، وهذه أعظم نعمة على الإنسان، فلقد كان طيلة حياته أسيراً للشيطان يحتنكه، وقد أحاط حبلاً في حنكه يقوده كيف شاء، ليثقله ويحمله ويكبله بكل الذنوب، وهاهو قد أصبح طليقاً خفيفاً، قد خرج من كل ذنوبه، وتخفف من كل أثقاله وقيوده، فيأتي إلى منى وإلى الجمرات ويعلن الحرب على الشيطان: بسم الله الله أكبر، رجماً للشيطان وإرضاءً للرحمان، وقبل هذا لم يكن يقدر، لأنه واقع في الأسر، أما الآن وقد تحرر وطلقت قيوده، ووضعت عنه أثقاله فقد أصبح نشيطاً يعلن الحرب على عدوه، فأي نعمة أعظم من هذه، فيصبحون يوم العيد في ضيافة الله، بل إن الضيافة في عيد الأضحى تمتد إلى ثلاثة أيام وهي أيام منى، فهي أيام أكل وشرب وتبعل، فإذا جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أصوم في هذا العيد، فنقول له: أنت مدعو من عند المولى سبحانه فأجب دعوة المولى سبحانه، فلو أن وزيراً من الوزراء جاءته دعوة من الملك فإنه يشرف بهذه الدعوة، فإذا كان شخصاً عادياً جاءته دعوة خاصة ببطاقة وفيها اسمه بتوقيع الملك، فكم سيكون فرحه بهذه الدعوة، وكم سيكون شرفه بهذه البطاقة، بل إنه سيحتفظ بها، وسيعرضها على الناس كل يوم، سبحان الله! فمن المجنون الذي يعرض عن مائدة الله، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، وقد اتفق العلماء بجميع مذاهبهم على تحريم صوم يومي العيدين، حتى قالوا: لو أن إنساناً نذر صوم يوم العيد فنذره لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعينه فنذره باطل، وإما أن يعين النذر بعمل، كأن يقول: يوم يجيء فلان من غيبته سأصبح صائماً، فجاء فلان هذا يوم تسعة من ذي الحجة، فإذا جاء يوم تسعة من ذي الحجة فسيصبح يوم العيد صائماً، وهو لم يعين يوم العيد، وإنما عين وصفاً فصادف وفاء النذر في يوم العيد، فقالوا: أيضاً لا ينعقد الصوم ولا يصح، فسواء عين يوم العيد باسمه، أو علقه على وصف فتحقق في يومه فلا يصح الصوم فيه، وهذا مذهب الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا عقد النذر وصادف يوم العيد، قال: انعقد نذره وحرم تنفيذه ويصوم يوماً آخر مكانه؛ لأن النذر لازم، ويوم العيد ممنوع صومه، فنأخذه باللازم وننقله إلى يومٍ آخر، وهذا فقه المسألة في صوم يومي العيدين.