[سبب تخصيص يوم الإثنين بالصيام]
كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من صوم يومي الإثنين والخميس، فسئل عن تخصيصه يوم الإثنين فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل عليّ فيه) ، ويذكر العلماء من أحداث الواقع التاريخي أنه أتى المدينة في الهجرة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ولذا قالوا: يوم الاثنين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة لآدم، كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) .
وقول مالك في الموطأ: (فيه تقوم الساعة وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) .
قوله: (ما من دابة) فيه أن الدواب كلها تعرف أيام الأسبوع، فإذا كان يوم الجمعة أصاخت من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، تنظر هل تأتي النفخة أي: النفخة ليوم القيامة إلى أن تطلع الشمس ثم تنصرف، يا سبحان الله العظيم! هذه الدواب العجماء، وهذه الحيوانات العجماوات تعلم يوم الجمعة، وتخشى قيام الساعة، وتتسمع من أجله.
فقالوا: يوم الجمعة أحداثه مرتبطة بآدم، وبمناسبة كون الساعة تقوم فيه، نجد الفقهاء يستحبون في صلاة فجر يوم الجمعة قراءة سورة السجدة؛ لأن فيها قصة آدم، وفيها البعث، وفيها الجزاء، وكذلك قراءة سورة الدهر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ} [الإنسان:١] إلى آخر السورة؛ لأن فيها أحوال يوم القيامة، فقالوا: في قراءة هاتين السورتين في هذه الفريضة يتناسب اجتماع الذكر مع التاريخ فيكون أدعى لأن يتذكر الإنسان مبدأه، وحياته، ومصيره، ليأخذ من حياته إلى ما بعد مماته.
إذاً: سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صوم يوم الإثنين؟ فعدد نعماً، وهذه النعم هي التي يقول عنها العلماء: لا كسب للعبد فيها وهي ثلاث نعم، ليس للعبد فيها كسب أو تسبب، وليس له فيها عمل، وليس له سعي في الحصول عليها، بل هي محض نعمة من الله عليه، أو محض إنعام من الله بها عليه، وهذه النعم هي: إيجاده من العدم، وإسلامه، ودخوله الجنة، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولدت فيه) وهو الإيجاد من العدم، وإذا فتشنا أنا وأنت حينما جئنا إلى الدنيا ماذا فعلنا لكي نأتي إلى الدنيا؟! ما عملنا شيئاً، فقد كنا في العدم، وغاية ما يمكن أن يقول القائل: إن الأبوين تسببا، فنقول: هما قضيا حاجتهما ولا يملكان بتلك الحاجة أن يأتيا بالولد؛ لأن الولد هبة من الله، كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:٤٩] ، وهذا الملك ليس مثل ملك الملوك في الدنيا، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٤٩] ، وفي هذا القدرة والعظمة، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:٤٩-٥٠] ، فمن جعله الله عقيماً، والله! لن يخصب ولن ينجب أبداً.
إذاً: الولد هبة، وإن تسبب الأبوان في وجوده، فتسببهما ليس بلازم أن يأتي بالولد.
ونعمة الإسلام، فالإنسان في عالم العدم كما يقول علماء الجدل: جائز الوجود، بمعنى جائز أن يوجد وجائز أن يبقى في العدم، وهما نظريتان متعادلتان، فكون واحدة ترجح على الأخرى فلابد من مرجح والمرجح هو الله، فإذا رجح وجود الإنسان على بقائه في العدم فمن أين وجد؟ كان من الممكن أن يوجد من أبوين بوذيين، أو أبوين وثنيين، أو أبوين يهوديين، أو نصرانيين أو غير ذلك، ولكن كون الله أختار له أبوين مسلمين وولد بين أبوين مسلمين فسينشأ مسلماً، وهل كان له اختيار أو جهد أو كسب في أن يوجد من أبوين مسلمين؟ ليس له فيه كسب بل هو فضل من الله عليه، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (وأنزل علي فيه) .
والإسلام أساساً ما أنزله الله على رسوله إلا بالرسالة، والرسالة إلى رسول الله محض فضل من الله، فقد اصطفاه الله لذلك قبل أن يوجد، وقد بحث العلماء هذا عند قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:٢١٩] فقالوا: اصطفاه وهو في أصلاب آبائه، وآباء آبائه إلى آدم، واختاره نبياً قبل أن توجد الدنيا، وكل شيء قد سجل في اللوح المحفوظ، والرسل مصطفون عند الله من قبل أن يوجدوا، فهذه رعاية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رعاه الله سبحانه وتعالى في أصلاب آبائه، وصانه من دنس الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح لا من سفاح) ، وكانت أنواع الولادات في الجاهلية متعددة، كما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان الزواج أو النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: تخطب المرأة من وليها فيزوجها كما تفعلون اليوم، وتؤخذ المرأة بالسيف، وتنصب المرأة الراية، وتتخذ الأخدان) فولد صلى الله عليه وسلم من النكاح الذي تخطب فيه المرأة من وليها فيزوجها، كما في القصة التي ذكرها ابن هشام في السيرة وفيها أمر يذهل العقل، لما أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله في قضية زمزم فلما وقع السهم عليه، وذهب ليذبحه منعته قريش، وتحاكموا إلى الكاهنة، وقالت: فادوه بعشر من الإبل واستهموا عليه بالقرعة، فإذا طلعت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشراً، فاستهموا وفعلوا إلى أن كملت الإبل مائة فخرجت القرعة على الإبل، ثم نحرت، وفي عودته مع أبيه تلقته امرأة قريبة لـ ورقة بن نوفل -وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة- فقالت: يا عبد الله! وهو والد محمد بن عبد الله، هل لك أن تذهب معي إلى بيتي الساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ قال: نعم، ولكني الآن مع أبي فأنظريني حتى أصل معه إلى البيت ثم آتي إليك، ولكن أباه لم يذهب به إلى بيته، إنما ذهب به إلى بني زهرة، وخطب له آمنة فتزوجها، ودخل عليها من ليلته ثم لما كان الغد خرج فلقيته تلك المرأة فأعرضت عنه، فتعرض لها فأعرضت عنه، فتعرض لها وقال: ما لك بالأمس تتعرضين لي واليوم تعرضين عني؟! قالت: كنت بالأمس أرى نوراً أو وبيصاً بين عينيك رغبت أن أظفر به ولكن ظفرت به آمنة بنت وهب، فهذا النور يتفقون أنه نور النبوة، ولكن ما كل إنسان كان يراه.
وبعض الناس يشكك في هذه القصة، ويؤكد ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه صين عن سفه الجاهلية وأنكحتها، وتنقل في أصلاب نكاح صحيح سليم إلى أن حملته آمنة ووضعته وأدت الأمانة ومات أبوه، وماتت أمه وبقي في كفالة ربه، فنشأ يتيماً ولكنه كفل الأيتام، وربَّى الكبار والصغار.
إذاً: رعاية الله كانت تحوطه، فهو نبي ومرسل، وقد جعل الله ذلك له ولبقية الأنبياء من أول ما أمر الله القلم: (اكتب ما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة) .
قوله: (يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه) كان بدء الوحي في غار حراء عند أن كان يتحنث فيه، وكان في يوم الإثنين، ثم بعد ذلك واصل الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان وصوله إليها في يوم الإثنين، وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وبقي يوم الثلاثاء، ودفن في يوم الأربعاء؛ لاشتغال الناس بالبيعة في السقيفة وبالخلافة وما وقع فيها، ولما فرغوا من أمر الخلافة جاءوا لدفنه صلى الله عليه وسلم، فهنا يقول العلماء: تلك نعم متجددة، فقوله: (ولدت فيه) ، وهذه نعمة الإيجاد من العدم، وقوله: (أنزل عليّ فيه) وهذه نعمة الرسالة، وليس بعدها نعمة، فكان يشكر هذه النعم بأن كان يصوم يومها.
وهكذا موسى لما نجاه الله من فرعون صام ذلك اليوم.
وقد ذكرنا سابقاً ما ذكره علماء السيرة: أن أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة استدعاهم النجاشي ذات يوم، فجاءوا إليه مذعورين، فلما دخلوا عليه إذا به جالس على أرض تراب ليس عليها فراش، حاسر الرأس، لابساً ثوباً قديماً خلقاً، مصوباً بصره إلى الأرض، فقال: أتدرون لمَ دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: نصر الله نبيكم محمداً، أو نبينا محمداً على عدوه في هذا اليوم، فقد التقى مع قريش في وادٍ يقال له: وادي بدر فنصره الله عليهم، ذاك وادٍ يكثر فيه الأراك، وقد كنت أرعى فيه إبلاً لبني فلان، فقال له جعفر: وما هذه الصورة التي نراك عليها فقد أفزعتنا؟ قال: إن فيما أنزل الله على عيسى أنه قال له: (إني أحب إذا جددت نعمة على عبدي أن يجدد لي شكر النعمة) ، فأنا على هذه الحالة شكراً لله على نصره محمداً على أعدائه، ولهذا جزم كثير من العلماء أنه مؤمن، ويؤكد ذلك أن اليوم الذي مات فيه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الجنازة.
قال: (يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه) ، وهاتان نعمتان عظيمتان، فشكرهما صلى الله عليه وسلم بصيامهما، لا بلعب ولا بعيد، ولا بلهو ولا بنحو آخره، فصام للذي أنعم عليه مرضاة له سبحانه.