[الترغيب في قيام الليل والتحذير من تركه]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه.
] تأملوا يا إخوان هذا الأسلوب! هذا أسلوب عتاب، أم أسلوب ممازحة، أم أسلوب ترغيب، أم أسلوب ترهيب؟ كيف نصنف هذا الأسلوب النبوي الكريم؟: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان) هل فلان هذا اسم جنس أم شخص معين؟ (فلان) كناية عن شخص من بني آدم، فهل يراد به شخص بعينه علم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل وترك أو أراد صلى الله عليه وسلم أن يجرد شخصية ينبه بها عبد الله بن عمرو بن العاص؟ ابن حجر رحمه الله يقول: قوله: (لا تكن مثل فلان) لم أقف على اسم هذا (فلان) في طريق من طرقه، هكذا يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو مؤلف الكتاب.
وبعضهم يقول: إن فلاناً هذا أمر رمزي، لا تكن كشخص من الأشخاص يقوم ويترك، مثل الآية الكريمة: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل:٩٢] هل هناك امرأة بالفعل نقضت غزلها، أم هذا من باب العموم، أن الذي يعمل عملاً ويشرك فيه أو يرجع فيه كالتي تغزل الغزل ثم ترجع وتفك الغزل هذا إلى صوف منثور؟ لا أعتقد أن امرأة ستفعل هذا بالذات، ولكن يكون هذا على سبيل المثال في نقض العمل بعد إبرامه، والله تعالى أعلم.
ولكن يقولون: من الأدب النبوي الذي نتعلمه: لعله يعلم شخصاً بعينه، ولكنه لم يسمه ستراً عليه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم من بعض الناس بعض الأفعال، ولكن لم يسمهم، ويخطب ويقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) ، من هم هؤلاء؟ لا حاجة لنا بمعرفتهم.
وكما جاء في رواية الموطأ: (عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل وعمر يخطب، فقال: ما هذا يا فلان؟ -رواية الموطأ هكذا ما سمت أحد- قال: والله ما زدت أن سمعت الأذان فتوضأت فجئت، فقال: والوضوء أيضاً؟!) يعني: تأخرت في المجيء ولم تغتسل! خطآن ارتكبتهما! بعض الروايات تسمي الشخص هذا الذي دخل، فيكون عدم تسميته كما يقال: حتى لا ينسب إليه هذا التقصير، وهو ليس من أهل التقصير.
ولكن هنا: (لا تكن مثل فلان) هذه ملاطفة ومداعبة، وحث وترغيب في العبادة، بالإشادة أو التنويه أو العتاب، فلان هذا ما هو شكله وما هو وصفه؟ (كان يقوم الليل ثم ترك) ، فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تقوم الليل فترة ثم تترك؟! ويقف عند هذا العلماء ويقولون: بم نستفيد من هذا الحديث في مشروعية قيام الليل، أواجب هو أم سنة؟ يقول بعض العلماء: كان قيام الليل في أول الأمر واجباً، ثم شق عليهم فنسخ الوجوب إلى الندب عندما فرضت الصلوات الخمس، طيب! الصلوات الخمس فرضت في مكة، والذي يهمنا أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، ويقولون: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب؛ لأنه لو كان فلان هذا الذي ترك قيام الليل ترك واجباً، فهل يكون موقف النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتهك واجباً مجرد أن يقول: (لا تكن مثل فلان) ؟ لا.
هذا الحديث يدل على الترغيب في قيام الليل، والأحاديث الواردة في الحث على قيام الليل عديدة، ولكن والله -يا إخوان- إن الإنسان ليذكر هذا الحديث وهو في غاية من الاستحياء، ومن العجب أيضاً أن يكون التفريط من طلبة العلم! يقول أحمد رحمه الله: (عجبت لطالب العلم ليس له ورد من ليله!) ؛ لأن قيام الليل هو أكبر غذاء للإنسان، اللهم إلا إذا كان يقوم من الليل بدراسة، في تفسير في حديث في فقه، بما يجد نفسه منشرحاً إليه، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سأله رجل: (ماذا أصنع في رمضان: أقرأ القرآن أم أصلي القيام؟ قال له: إنما أنت مرتاد لنفسك -يعني: تسيمها المرعى- فحيثما استجابت معك فارعها) .
إن كانت تستجيب معك برغبة وبإمعان واستفادة في القراءة فاقرأ، وإن كانت تستجيب معك في الصلاة والمناجاة والخشوع والركوع والسجود فصل، وهكذا يقال لطالب العلم.
وقد جاء أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب وقال: ألا تكن مثل آل فلان يحيون القيلولة ويقيمون الليل! قال: دع عنك بني فلان، والله لتعلم مسألة في الفقه خير من عبادة آل فلان.
إذاً: مجال القربى والزلفى إلى الله واسع، لكن لابد أن تكون هناك ساعة عبادة لا في العلوم الأساسية خاصة الفقه، الفقه له قساوة وشدة، وله أيضاً طلاوة وحلاوة، لكن ما كل إنسان يقوى على مكابدته، فلابد له من ساعة يذكر الله فيها، يأخذ آيات من كتاب الله يقرؤها ويتلوها ويتمعن فيها، وقد سبق أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل كله، وأقول: والله! لو أن إنساناً شرح الله صدره، وأنار قلبه، وأخذ الفاتحة ليالي عديدة ما أدى واجبها، ويقول عنها علي رضي الله تعالى عنه: (لو شئت أن أكتب حمل بعير على سورة الفاتحة، لفعلت) ، ومن أراد أن يعرف حقيقة أمرها فليأخذ مقدمة تفسير الفخر الرازي على الفاتحة، ولينظر كم أخرج منها من مئات وآلاف المسائل والأبواب! أيها الإخوة! قيام الليل كل بحسبه، لو أن إنساناً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم استيقظ من ليله واستغفر ربه، وسأل الله فله أجر عظيم، كما جاء في الحديث: (ما من إنسان يتعار من الليل فيذكر الله ويستغفره إلا كان له من الأجر كذا وكذا) نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، وأن ينير قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
فلابد للإنسان من ساعة يخلو فيها مع الله، كما قال عمر لجليسه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وهل كانوا غير مؤمنين؟ لا.
المراد: نجدد الإيمان، نقوي الصلة بالله، نجدد الرغبة بأن نتذاكر فيما بيننا، سواء آية، أو حديثاً، أو مسألةً، أو نتذكر اليوم الآخر إلى غير ذلك.
تلك الساعات تغذي الروح، وترطب القلوب التي قست فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وليس لها دواء ولا شفاء إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، وليس الذكر مجرد إطلاق اللسان بأي حالة من الحالات: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١] بأي حالة من الحالات.