شرح حديث: (إن فلاناً قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن فلاناً قدم له بز من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه فامتنع) ، أخرجه الحاكم والبيهقي، ورجاله ثقات] .
ماذا تقولون في هذا الذي امتنع؟ أنا أقول: جزاه الله خيراً؛ لأنه بين لنا حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لمن لم يطعه، فإنه لم يلزمه صلى الله عليه وسلم بما يريد، سبحان الله العظيم! نرجع إلى موضوع الحديث، وله نظائر: [إن فلاناً قدم له بز من الشام] .
البز: نوع من القماش مثل الخز، يشترك في نسيجه القطن والكتان، والحرير، أو شيء من هذا.
[فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين] .
هل كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم ثياباً كثيرة؟ لا.
الواحد منا كم عنده من ثوب؟ لا يقل عن أربعة أو خمسة أثواب.
قد يقال: هذا فيه نوع ترفيه وتجمل، وقد سبق ل عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! اشتر هذه، تلبسها في الأعياد وعند الوفود، وهذا الذي ينبغي على المسلم وخاصة المسئول؛ فإنه لابد أن يكون في التجمعات مظهره أكمل؛ لأن في هذا إظهار فضله واعتزاز نفسه، وأكثر من هذا: في غزوة تبوك لما نزلوا منزلاً، وكانت تلك الأيام أيام حر، وكانوا إذا نزلوا منزلاً وفيه شجر، يتركون الشجر الأكثر ظلاً لرسول الله، فجاء أبو طلحة إلى رسول الله بغرارة وفيها قثاء، فقال له رسول الله: (من أين هذا؟ قال: جئت به من المدينة) ، ونعلم بأن القثاء أشد تحملاً في السفر من الخيار والخربز، والحبحب؛ لأنها صلبة، فأكل صلى الله عليه وسلم، فإذا بغلام لـ أبي طلحة مر في ثياب خلقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس عنده سوى هذا الثوب؟ قال: بلى يا رسول الله، ثوب جديد في الخريطة، فقال: مره فليلبسه، فدعاه وقال له: البس ثوبك الجديد، فلبس ثوبه الجديد، فكان بمنظر غير المنظر الأول، فقال رسول الله: ضربت عنقه! -أي: أليس هذا أحسن؟ - فقال الغلام: في سبيل الله يا رسول الله! قال: في سبيل الله) فضربت عنقه في سبيل الله، لكن المشكلة هنا: أنهم في غزوة ومقدمون على الروم، فقد كانت غزوة تبوك عن موعد مع الروم، ومن عادة الجيوش أو المتقاتلين: أن الهيئة والبزة تعود على الخصم بالتأثير، فإذا رأى الخصم خصمه مهلهل الثياب، ضعيف السلاح، مطأطئ الرأس؛ طمع فيه ولم يبال.
أما إذا رآه منتفخاً ريشه، ومرتفعاً رأسه، ويزهو بنفسه عمل له حساباً، ولهذا لما أخذ أبو دجانة السيف وأخذ يتبختر به ويمشي مشية الخيلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأنه إذا استخف به كأنه مستخف بالعدو، كما قال: جاء شقيق عارضاً رمحه إن في بني عمك سلاح وأباح صلى الله عليه وسلم الذهب -الممنوع- أن يجعل حلية في السيف؛ لأنه يراه العدو، فيعرف بأن صاحبه صاحب نعمة، وسبق أن سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته -وهي قبيلة تجارية حربية- كانوا في سفر للتجارة؛ فرءوا في طريقهم رجالاً يعترضونهم بالسلاح، فعرفوا أنهم قطاع طُرق، وأنهم سيتقاتلون معهم؛ فلما دنوا منهم أناخوا الإبل -وكانت عليهم ثياب للسفر عادية- ثم أخرجوا أحسن ثياب يحملونها معهم فلبسوها، وأخرجوا أفضل نعالهم فانتعلوها، ثم أثاروا الإبل، وتقدمها رجال وتأخرها رجال، واكتنفها من الجانبين رجال ومشوا بتؤدة وتأن ولا كأن أمامهم شيء، فلما رأى قطاع الطريق ذلك قالوا: هؤلاء أناس ليسوا بعاديين، فمادامت هذه حالهم فإنهم واثقون بأنفسهم، فجنبوا عن الطريق، فابتعدوا عن طريق سيرهم حتى اجتازوا فأناخوا الإبل، وأخرجوا من تجارتهم شيئاً كالهدية والطعم، ووضعوه على ظاهر الطريق، وكأنهم يقولون لهم: تعالوا خذوا بعض الشيء، ثم مضوا في سبيلهم.
وهذا كما يقال: فيه كسر لنفسية العدو، وكذلك ما حصل في تبوك، فإنهم عندما يرون الخادم بالثياب الجميلة يقولون: إذا كان هذا خادمهم وراعيهم، فما بال الآخرين؟ وعمر رضي الله تعالى عنه عندما رأى الحلة، ورأى الوفود تأتي إلى رسول الله أراد أن يكون لرسول الله ثياباً خاصة يلقى فيها الوفود، وهذا مناسب، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) ؛ فالفلاح والجزار والحداد له لباس لعمله يتحمل الأوساخ، فهل يذهب الجزار مثلاً إلى صلاة الجمعة بملابسه التي يعمل بها في المجزرة، ويدخل المسجد بين الناس في صلاة الجمعة بهذه الملابس؟! فلابد أن يكون له ثوباً خاصاً ليوم الجمعة بعيداً عن أوضار المهنة؛ ليكون في مظهر ومنظر حسن، وحسن السمت من حسن السيرة.
إذاً: لما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض على عمر أن يلبس حلة للوفود، ولكن لما نظر في قماش الحلة وجد أنها لا تصلح له، وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) ، يعني: نوعية قماشها لا تصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: أنه لو كان القماش من نوعية أخرى لقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه كانت له بردة يخطب فيها يوم العيد ويقابل بها الوفود، وبقيت بعده إلى أن اشتراها معاوية رضي الله عنه.
إذاً: عائشة رضي الله تعالى عنها رأت من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في حاجة إلى ثوبين من هذا البز، فعرضت عليه أن يشتري، فقالت له: (لو أرسلت إليه، فأخذت منه ثوبين نسيئة، فبعث إليه فامتنع) ، نقول: إن الرجل لا يجهل قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه حريص على المال لأي معنى من المعاني، وهذا قضاء الله الذي وقع.
وامتناع الرجل عن البيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسيئة أعطانا خلفية عن معاملته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فإنه لم يخاصمه ولم يعاتبه ولم يلزمه بشيء؛ لأن هذا ملكه وله حرية التصرف فيه.
ولو حدث هذا الموقف لأحدنا فسيقول للتاجر: أنت لا تقرض أحداً، ولا تأمن الناس، والتاجر معه الحق في ذلك؛ لأنه حر في ماله، فله أن يقرض من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومن أجل ثوبين ليس لديه حقهما يطلب من رجل ثوبين بقيمتها نسيئة، ومع ذلك يرفض الرجل! يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقريب من هذا قضية بريرة؛ فبعد أن أعتقت واختارت نفسها، وصار زوجها يتبعها في الطرقات، وبلغ خبرها رسول الله، قال لها رسول الله: (زوجك- يعني: انظري في حاله- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟ فقال لها: أنا شافع؟ - والشافع قد تقبل شفاعته وقد لا تقبل، والآمر إذا كان له حق الأمر فأمره مطاع- فقالت: لا حاجة لي فيه) ، وهذه كما أشرنا مراراً: جواب ملفوف في ورق ملون مكتوب فيه: لا أقبل شفاعتك، فلم يعتب عليها صلى الله عليه وسلم ولم يلزمها، ولم يأخذ في خاطره منها؛ لأنها حرة في نفسها، وقد شفع فلم تقبل الشفاعة.
إذاً: نحن أيضاً مع الناس في الشفاعة، لو شفعنا في مصلحة إنسان فردت شفاعة من شفع لا يحمل في قلبه الحقد، ولا يقول: لم يقبل شفاعتي، لماذا؟ ليس بينك وبينه عداوة، ولا أخذ لك حقاً، غاية ما في الأمر أنك طلبت منه طلباً ليس ملزماً بإجابته فرفض، لماذا تحمل في نفسك عليه؟ والمؤلف جاء بالحديث في باب القرض؛ لأنه انتهى من باب السلم، وتقدم حديث عائشة قبل ذلك: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، وهذا تحذير من القرض بدون حاجة، أو بنية عدم الرد والسداد.
وهنا عملياً: إذا أنت اشتريت وبقي الثمن مؤجلاً، فكأنك اقترضت الثمن من صاحبه، فيجوز البيع بتقديم السلعة وتأخير الثمن، ذكرنا سابقاً بأن البيع ثلاثة أقسام: إذا كان الثمن والمثمن حاضر خذ وهات، وإذا كان الثمن غائباً والسلعة حاضرة فخذ السلعة ثم هات الثمن، والعكس في السلم؛ الثمن مدفوع في المجلس، والمثمن مؤجل.
إذاً: أخذ السلعة نسيئة لا بأس به، ولكن إذا كان الثمن نقداً من غير جنس المبيع، فلو أنك اشتريت إردباً من التمر بإردب من البر على أن يكون نسيئة، فلا يجوز؛ لأن البر بالتمر يجب أن يكون يداً بيد، وإن جاز التفاضل فلا يجوز النساء، كما هو في السلم؛ إذا أسلمت في تمر وكان رأس المال براً فلا يجوز؛ لأنه من بيع ربوي بربوي نسيئة، فلا يجوز ذلك.
وباب القرض واسع، فقد يكون في النقد، وقد يكون في ثمن البيع، وقد يكون في أجرة الأعيان، كأن تستأجر البيت أو البستان والأجرة مؤجلة إلى كذا كل ذلك جائز.