[تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم]
ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية:(ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات.
وقد تقدمت الإشارة إلى أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء.
وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء -والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك بذلك كله.
ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه تعارض؟ قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر بما سمع.
إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات:(ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك.
وعلى هذا: فمن قدّم الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض المحظورات وقد كان في عافية من ذلك.
وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله:(خذوا عني مناسككم) ؛ علمنا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.