وهنا يتبين فضل الحج، وأنه يعدل في ثوابه ثواب الجهاد، والمجاهد في سبيل الله ينال إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وفيها حياة برزخية دائمة إلى يوم القيامة، ثم مأواه الجنة، وإما النصر والغنيمة.
والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو جهاد للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل للمشاق، ولربما البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج على الحالة التي كان عليها من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته من وسائل الراحة قد يجدها أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في الحج من وعثاء السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان أو المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة، والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة.
نجد في الحج جهاد النفس، فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف بها، وقد نجد في الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا إلى محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه، فتكون زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي حلال له بكتاب الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي حجه، ونجد الحاج يرى الصيد بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه من الحلال، ولكن لإحرامه يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه إلى غير ذلك.
والجهاد كما قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:٥٢] ، وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس إلى غير ذلك من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج وأنه يعدل فضل الجهاد.
وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) إذاً: الجهاد الذي لا قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على سبيل التشبيه؛ لأن الحديث السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد:(أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) .