شرح حديث: (كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ... )
قال رحمه الله: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته: استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) ، رواه مسلم.
] .
قوله: (استغفر) الهمزة والسين والتاء للطلب، مثل استنجد: طلب النجدة، واستعاذ: طلب العوذ واللواذ، واستغفر: طلب المغفرة.
كنا في الصلاة في مناجاة مع الله: حمدنا وشكرنا وركعنا وسجدنا وقرأنا وسألنا كل ما يمكن من العبادات تكون في الصلاة، والاستغفار: طلب المغفرة، وطلب المغفرة إنما يكون من خطيئة أو ذنب، أين الخطيئة، وأين الذنب الذي حالاً نستغفر منه؟ يرى بعض العلماء بأن الاستغفار مباشرة عقب الصلاة تتمة لأمر الصلاة؛ لأن المطلوب في الصلاة أن العبد يكون في رحلة مناجاة مع الله، وقد جاء عن بعض السلف: أنه كان يغيب عن وعيه عما حوله إذا دخل في الصلاة، ويجمع كل إحساسه ومناجاته في صلاته، ويقولون عن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم: كان يصلي، وبعد ما انتهى من الصلاة نظر فإذا غبار في جانب من المسجد، قال: ما هذا الغبار؟ قالوا: ألم تعلم؟ قال: ما الذي حصل؟ قالوا: جدار المسجد سقط، يسقط جدار المسجد الذي هو فيه وهو لم يشعر، لماذا؟ كان في مجال آخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: تشغل الإنسان عن كل ما حوله، ويذكرون عن عروة بن الزبير -ولم أجدها في ترجمته- أنه لما سافر إلى معاوية بالشام أصيب بجرح، ودخلته الغرغرينة إلى أن جاءه الطبيب وقال: لابد من قطع القدم؛ لئلا يسري الداء إلى الجسم فيقتلك، وفي بعض الكتب أنه قال: ائتوا به لكي نبنجه قال: لماذا؟ قال: حتى تغيب عن وعيك فنقطع رجلك، فرفض، وقال للطبيب: اقض عملك، فقطعوا رجله دون أن يبنجوه، ولم يتأوه، ولا مرة، وبعضهم يقول: كان معه بعض أولاده، فقال لهم: تريدون قطعه؟ قالوا: نعم، قال: انتظروا حتى يدخل في صلاة، فإذا دخل في صلاة فشأنكم برجله فلن يشعر بكم، وفعلاً تركوه حتى كبر للصلاة وجاءوا بأدواتهم ونشروا ساقه، ولم يقل لهم شيء، حتى انتهى من الصلاة فإذا برجله بجواره، قال: ما هذا؟ قالوا: رجلك الذين نريد أن نقطعها، قال: متى؟ قالوا: وأنت في الصلاة، أعتقد أن مقاييسنا لا تحتمل هذا، وأي ميزان في العالم له طاقة خمسين كيلو لو وضعت عليه زيادة لابد أن يخسر ويفسد، فموازيننا العقلية لا تتحمل هذا، كيف نقيس بها ذلك؟ ولو وجدت شوكة أو إبرة وأنت في الصلاة لابد أن تشعر بها.
إذاً: هذه أمور يمنحها الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده حتى يكونوا في حالات الله أعلم بها، وكما قال عمر بن عبد العزيز أو غيره: إذا أردت أن تدخل على ربك بغير استئذان وتخاطبه بلا ترجمان: فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وكبر للصلاة، الآن عندما دخلنا المسجد استأذنا من؟ لا أحد، فقط قلنا الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك) فكبرتَ وقرأتَ، وكل مسلم يتعين عليه أن يقرأ الفاتحة بالعربية، لكن غير العربي في الأدعية هل يتعين عليه أن يدعو باللغة العربية؟ إن لم يستطيع فبلغته، خاطب ربه بدون ترجمان، ويكون الصف فيه مئات الأشخاص يدعون بمئات اللغات، ولا يحتاج الإنسان مع الله إلى ترجمان؛ لأنه منه إلى ربه.
فإذا كان الأمر كذلك، فيعلمنا صلى الله عليه وسلم: أنه يقع من الإنسان بعض التقصير في حق الصلاة سواء من كمال خشوعه وخضوعه فيها أو من سهو عن بعض سُننها أو شروطها أو لوازمها؛ فحينما يفرغ منها ويخشى أن يكون هناك تقصير ما الذي يجبر هذا التقصير؟ ليس شيئاً معيناً كسجود السهو، ولكن أشياء لا تدخل في الجبران التشريعي التكليفي، وإنما تدخل في الجبران الروحي المعنوي، فلكأن النبي صلى الله عليه وسلم بتشريعه للاستغفار عقب الصلاة إنما يرشد إلى أن ما كان من تقصير في الصلاة، تسريح في الذهن أو غير ذلك فإنما يجبره الاستغفار؛ فهو يستغفر الله عما كان منه من ذلك التقصير، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الخاشعين والمتواضعين لله يقول: (إني أدخل في الصلاة، وأريد أن أطيل، فأسمع بكاء الطفل، فأخفف شفقة أمه) ليس جدار يطيح ولا يدري عنه، لا، طفل يبكي عند أمه فيسمعه ويدرك بكاءه، فيخفف شفقة على الأم، وتلك أمور نادرة، ولكن التشريع هنا للاستشعار بأن الاستغفار عقب الصلاة هو جبران لما يكون من تقصير فيها، والله تعالى أعلم.
ويقول بعض العلماء: لا يمكن لإنسان أن يصلي ركعتين دون أن يقع منه تقصير فيها ويذكرون مثالاً لذلك: أن شخصاً جاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وقال: أنا كان لي مال ودفنته ثم نسيت أين دفنته، ماذا أعمل؟ أبو حنيفة هل كان يعلم الغيب أو سينجم؟ لا، لكن بفقهه قال: إذا كان ثلث الليل الأخير؛ فقم وتوضأ وصل ركعتين، وأخلص فيها النية لله، ولا تحدثن نفسك ولا بشيء، ثم بعد ذلك تأتيني، وفي الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً، قال: ما بك؟ قال: وجدت المال، الحاضرون عجبوا من هذا، وقالوا: كيف وجده؟ كيف أرشدته إلى هذا؟ قال: إن الشيطان لن يدعه يمضي في صلاة من هذه النوعية، ويهون على الشيطان أن يعثر على المال بدلاً من أن يصحح ركعتين بهذه الصفة، فلما استمر في صلاته جاءه الشيطان، وقال: أنت دفنته في المحل الفلاني، ولما يتذكر موضع المال هل سيستمر في ذلك النوع من الصلاة؟ لا، فذهب ووجد المال.
ويقولون: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (إني لأجهز الجيوش في الصلاة) ، يعني: أفكر فيها، وهو والله لا يلام؛ لأن عشرات الآلاف من المسلمين يخرجون من المدينة إلى أقطار الدنيا، كل يحمل روحه في كفة، والدين في كفة ابتغاء وجه الله، من يتحمل مسئولية هؤلاء؟ ووجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر كان يرفع كفيه إلى السماء ويناجي ربه ويناشده حتى يسقط الرداء عن كتفيه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض) ، فهل كان يبتهل لنفسه أو من أجل تلك العصابة؟ بل من أجل غيره، وبعض الناس كلموه، فقال: من منكم يصلى ركعتين لا يُحدث فيهما نفسه فله فرسي الفلاني، فقام شخص وأخذ يُجرب، فذهب ومن غد جاء وقال: يا أمير المؤمنين! أنا فعلت، قال له: كيف؟ قال: قمت وأنا خالص النية وليس على بالي شيء، ولكن قبل أن أسلم فكرت: عندما آخذ الفرس ماذا سأفعل به؟ أنا لست فارساً حتى أقاتل عليه، وليس عندي كلفة الفرس، وكلفة الفرس أكثر من كلفة الإنسان، قال له: هذا من التفكير في الصلاة.
إذاً: حينما يدخل الإنسان الصلاة ويخرج منها يستشعر بأن هناك بعض النواقص، ويمكن أن يشهد لهذا المعنى الذي ذهب إليه العلماء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أول ما يُنظر في عمل العبد من الحقوق الدماء، ثم من العبادات الصلاة، فإذا كان هناك نقص على العبد في صلاته من غفوات وقعت منه، فيقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم، له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وعلى هذا المقياس يكون الاستغفار جبراً لما كان من نقص في صلاته، والله تعالى أعلم.
(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) .
هذا الذكر المبارك لعله يوحي به السلام في الصلاة، وأيضاً حينما فرغ من صلاته سيتجه إلى دنياه فيطلب السلامة، (أنت السلام، ومنك السلام) ، وأسألك السلامة في ديني ودنياي وكل أحوالي (تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ، يا ذا العظمة والكبرياء، فيه كل معاني العظمة لله سبحانه وتعالى.