للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً)

يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في باب نواقض الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه ريح أو لا؟ فلا ينصرفن من صلاته أو من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) هذا الحديث يعتبره علماء الحديث وعلماء الأصول والفقهاء أساساً لقاعدة فقهية، وهي: أن اليقين لا يرفع بالشك.

ومعنى قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يعني: حركة قد تحصل في البطن بتحرك غازات أو ما يسمى بالمغص أو شيء من هذا.

قوله: (وأشكل عليه) الإشكال مأخوذ من الشكل، وهو عند علماء المنطق التشكيك، وذلك: أن الصورة الذهنية بالنسبة لموضوع معين تشتبه بين أمرين: إذا نظر إلى هذا قال: هو منه، وإذا نظر إلى ذاك قال: هو منه، فشك بأيهما يُلحق أو من أيهما يكون، ولذا قالوا: الشك هو: استواء الطرفين دون ترجيح.

وقالوا: إن العلم هو: ما وقر في النفس دون منازعة، والظن هو: ما نازعه ما هو أضعف منه، فإذا تعادلت الكفتان ثم رجحت إحدى الكفتين بأحد المعنين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإذا تعادلت الكفتان دون ترجيح فهو شك.

وهنا لما وجد الشيء في بطنه وأشكل عليه: شك، وقال في نفسه: هل يا ترى مع تلك الحركة التي في البطن هل خرج شيء أم لا؟ فحينئذ عليه أن يلغي هذا الشك ويبني على ذاك اليقين؛ لأنه في الصلاة -كما في بعض الروايات- والصلاة ما دخلها إلا بيقين الطهارة، أو في المسجد -على بعض الروايات- والمسجد ما أتى إليه إلا بكامل الطهارة، إذاً: الذي أشكل عليه طارئ بعد يقين الطهارة، إذاً: الطهارة هو متأكد منها وثابتة عنده بيقين، فلا يحكم برفضها وإبطالها إلا بيقين مثله، وهكذا قالوا في عموم الأمور، فمثلاً: لو توضأت في بيتك أنت وزميلك، وكل منكما متأكد بأنه توضأ مع الآخر في مكان واحد ومن إبريق واحد، ثم خرجتما، وفي طريقكما إلى المسجد دعاكما بعض الإخوان لتناول الشاي، فذهبتما معه وجلستم، ثم قمتم لتذهبوا إلى المسجد، وعند باب المسجد قلت: هل أنا أحدثت أو لا؟! الطهارة أنتم متيقنون فيها أنت وهو، ولكن الشك حصل في كونك هل أحدثت بعد تلك الطهارة المتيقنة أو لا، فصاحبك يقول لك: نحن توضأنا معاً، وأنت تقول له: نعم، أنا متأكد أننا توضأنا معاً، لكن لا أدري عندما جلسنا نشرب الشاي هل حصل مني شيء أو لا؟ الآن عندنا طهارة وشك في الحدث، والطهارة ثابتة بيقين، والتفكير في الحدث شك طارئ، فنقول: الطهارة ثابتة باليقين فتبقى على ما هي عليه، وعندنا استصحاب الأصل، والأصل الطهارة وهي ثابتة، وأما الحدث فهو أمر مشكوك فيه، فلا نترك اليقين بسبب الشك.

وكذلك العكس: فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فيلغى الشك في الطهارة ويعتمد الحدث ويتوضأ، مثلاً: أنت وصاحبك كنتما في البيت، ودخلتما الحمام، وخرجتما، ثم لقيكما صاحبكما ودخلتما عنده، وقلتم: هيا نذهب إلى المسجد.

فقلت: أنا أحدثت في البيت ودخلت الحمام، ولكن ما أدري هل توضأت أو أتوضأ الآن؟ إذاً: الشك هنا هو في الطهارة؛ لأن الحدث ثابت ويشهد عليه بيت الخلاء، لكن الوضوء هو الذي شككت فيه، إذاً: الوضوء هنا يكون على اليقين، فإذا تيقنت في الحدث وشككت في الوضوء، فألغ الشك، وابنِ على اليقين بالحدث وتوضأ.

وهكذا أيها الإخوة! حتى في المعاملات يقولون: لو قدر أنك اقترضت من زيد ألف ريال، ثم جاء يطالبك، فقلت له: هذا صحيح، ولكن هل أنا أعطيتك الألف؟ قال: لا، ما أعطيتني.

فقلت: يا أخي! أظن أنني أعطيتك.

وليس هناك سند، ولا شهود.

فإذاً: القرض هنا ثابت قطعاً وأنت معترف به، والدفع مشكوك فيه؛ لأنك تدعي وهو ينفي، فالشك طارئ على السداد، فابنِ على اليقين بأن القرض لا زال ثابتاً في ذمتك حتى يثبت السداد يقيناً وهكذا.

فهذا الحديث أصل عظيم، ومنه أخذت القاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، كما تقدم.

وهنا قال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وقد ذكرنا قصة أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بالنقض بالنوم، فقد كان ينام وإخوانه حوله، فإذا استيقظ قال لمن حوله: هل سمعتم شيئاً؟ فإذا قالوا: لا.

قال: فهل شممتم ريحاً؟ فإذا قالوا: لا، قام فصلى، لأنه لما لم يسمع جلساؤه منه صوتاً، ولم يشموا منه ريحاً بنى على اليقين الأول الذي هو الطهارة قبل النوم؛ لأنه كان ينام في المسجد بعد أن يصلي، فهو على طهارة، ولما كان النوم مظنة الحدث لم يقطع بأنه أحدث؛ لأن الحضور المشاهدين لم يسمعوا صوتاً ولم يشموا ريحاً.

لكن لو أن الشك في غير الريح، أي: في شيء آخر من نواقض الوضوء، كأن تكون ذهبت إلى أقاربك زائراً، وجاءوا -على عادات بعض الناس- إليك فصافحتك امرأة منهم، ثم شككت هل صافحت فلانة أو لم تصافحها؟ فحصل عندك شك في كونك صافحت أو لم تصافح، فعلى كونك صافحت يكون قد حصل اللمس، وعلى قول من يقول بالنقض فعليك الوضوء، ولكن أنت متأكد من الوضوء وشككت في وقع النقض بالمصافحة.

إذاً: عليك أن تبني على اليقين وهو بقاء الوضوء.

فسماع الصوت أو وجدان الريح في الحديث إنما هو على سبيل المثال؛ حتى يتأكد الإنسان في الأمر الذي أشكل عليه، فيرفع الإشكال ويبني على اليقين.