للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر]

وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة) .

إذاً: المسافر الذي استوفى شروط السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في السفر أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو حتى في غير طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة:٢] فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي بذلك لأنه يساعده على معصيته.

إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال يقصر حتى يرجع إلى بلده.

ولكن قد تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنه.

والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع إقامته صلى الله عليه وسلم هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح وعام الحج، وكل منهما يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام الحج له ظروف، وسنتناول حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع الإلمام الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح.

ففي سفرة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ كُرَاعَ الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا -وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل مكة وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية عشر يوماً -أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) .

فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي أجلسه صلى الله عليه وسلم تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟ نعلم جميعاً أن بعد الفتح كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن هوازن تجمع له، علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك اللحظات، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن.

إذاً: كانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول: إنه مقيم، ولا تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً.

إذاً: ما دام الأمر كذلك فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة حتى رجع من هوازن ورجع إلى المدينة.

أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قدموا صبح رابعة) أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الرابع من ذي الحجة، وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة يكون يوم تسعة، فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه المدة قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها الإقامة، كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟ كم مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟! الجواب: ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى منى ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث إلى صلاة الصبح في منى، فلما أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من أقام أثناء سفره لمدة عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم فيه خمسة فروض؛ فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة أكثر من ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟ قال الإمام أحمد: الأربعة الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر لاحق، ولا يزال مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة.

وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص جميعها توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا أقمنا أثناء السفر مدة معينة نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو ثلاثة فإنا نقصر من باب أولى.

يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون بأن من نوى الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى كما عند الأحناف أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين القرئين، وهذه المدة جاءت بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.

إذاً: المسافر إذا نزل نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء طريقه، وكان نزوله وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى يرحل، وإن كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول ما يصل.