قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها) رواه البخاري] إذا أطلقت كلمة: عزيمة، فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح تقابلها الرخصة، ولكن المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها الحرص، وجاء فيها التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص) .
يقول الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها والتحريض عليها والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها، وسيأتينا أن سورة الحج تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما) يعني: الآيتين اللتين فيهما السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد فيهما يتركهما، فالطلب هنا أشد منه في (ص) .
قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص) ؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود عليه السلام توبة، وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا تبعاً لرسول الله.
وقالوا: قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام:٩٠] ، وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع اختلاف الاعتبارين:{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}[ص:٢٤] فكانت استغفاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن سجدها اتباعاً واقتداء بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم.
إذاً: سجدة (ص) تجمع بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين كونها سجدة شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي سجدة، ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟ ما دام صلى الله عليه وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله تعالى أعلم.