الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: سل.
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ فقلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
هذا الصحابي الجليل في بعض أخباره كما سمعنا من المشايخ رحمهم الله خدم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدى له أمراً فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم، قال: أمهلني، فرجع إلى زوجه وأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يسأله أي شيء مكافأة له على عمل ما، قالت: أويفعل؟ قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله مرافقته في الجنة.
لم تقل: سله عملاً أو منصباً أو مالاً، وهي ما هو الذي يخصها من مرافقة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لو سأل مالاً أو منصباً يمكن أن تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين: إما من باب: النصح لله ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها ووفائها لزوجها، أنها تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم من امرأة أعقل من عشرات الرجال! وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور:٢١] إذاً: تكون الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا دخل الجميع الجنة مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله الزوجة إلى مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء بالأبناء والأزواج بالزوجات.
يهمنا في هذا التوجيه: أن الرجل أخذ بهذا الرأي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: طلبتني أن أسألك؟ قال: نعم، قال: ووعدتني أن تعطيني؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة.
لم يطلب مجرد دخول الجنة، بل طلب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذه مسألة غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، قال له: أوغير ذلك؟ اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك، فتمسك الرجل بوعد رسول الله.
انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، هل قال له: أنا أضمن لك هذا؟ بل وجهه إلى ما يفعله هو، قال:(أعني على نفسك بكثرة السجود) فهو يقول له: يمكن أن يكون لك ما أردت بمساعدة من عندي، بما له صلى الله عليه وسلم من حق الشفاعة، وبما له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى أمر فقال:(أعني على نفسك بكثرة السجود) كثرة السجود توحي بزيادة سجود مطلقة سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة مطلقة غير مقيدة لا بزمان ولا بمكان، وهل السجود مراد لوحده فقط؟ السجود هنا بمعنى الصلاة.
إذاً: يفتتح المؤلف رحمه الله هذا الباب بهذا الحديث ليبين أن كثرة التطوع تؤهل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن يكون قريباً منه في الجنة، أنه قال:(أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال:(أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) ، (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة ... ) إلى آخره، فهناك مميزات وأعمال تدني من تلك الدرجة، ولكن يهمنا في هذا الباب -باب التطوع في الصلاة- قوله:(أعني على نفسك بكثرة السجود) .