وعن ابن عباس قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن الأثر) رواه الترمذي وقال: حسن.
ذكر في الحديث السابق أنه كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، يعني: إذا أتوا إليها قصداً، فتلك زيارة مقصودة، وهي ليست من شد الرحال؛ لأن البقيع في طرف المدينة، بل أبعد منه قباء، والإتيان إلى قباء ليس شداً للرحال؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا إلى ماء وشراب للطريق، فهو في أطراف البلد.
فإذا خرج الإنسان وقصد المقابر بذاتها فقد تقدم الكلام، وقد كانوا كثيراً ما يقصدونها يوم الجمعة ويوم العيد، فيسلمون على الموتى ويدعون لهم، والموتى يستأنسون بهم.
فإذا لم يكن قاصداً، ولكنه مر فرأى في طريقه مر على مقبرة، فهل يمر بها وهو صامت؟ فالمؤلف بين لنا الحالة الأولى وهي: أن يعمد إلى المقابر زائراً فماذا يقول؟ يقول كما تقدم (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) فإذا مر مروراً عادياً؛ لكنه فوجئ ووجد نفسه يمر على المقبرة، فماذا يفعل؟ قال:(مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه ... ) لأن الإقبال بالوجه من أدب المحادثة والمخاطبة، فلا تسلم وأنت تمشي، بل يجب أن تحترم من تسلم عليهم، فتتوجه إليهم حيث يوجهك، سواء للقبلة أو للشمال أو للجنوب؛ لأنك تستقبل من تسلم عليه.
قال:(فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) في الحديث السابق قال: (دار قوم مؤمنين) وهنا قال: (يا أهل القبور) ؛ لأنه مر على قبور، فنحن عندما نمر على القبور، سواء من الطرف أو من الوسط نقول:(السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) .
السلف: هو الذي يتقدم، وسلف الأمة: الأجيال المتقدمة، (ونحن بالأثر) الأثر: الطريق الذي سلكه أهل القبور، وأولئك كل من على وجه الأرض سيسلكون على أثرهم، ولن يتخلف أحد يتخلف أبداً، ولا هناك أحد له طريق غير هذا الطريق.
أنتم سلفنا، أي: تقدمتمونا، ونحن على أثركم نمشي، وسنلحق بكم إن شاء الله.
والعاقل حينما يأتي إلى المقابر، ويتذكر هذه الدعوات فإنه يتصور مآل الإنسان، كما في الحديث السابق:(ألا فزوروها، فإنها تذكر بالآخرة، وتزهد في الدنيا)