[قيام الليل فضائله وأحكامه]
قال المؤلف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة ولم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر) رواه ابن حبان.
وعن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه] .
بعدما أورد المؤلف رحمه الله ما يشبه الخلاف أو التعارض، أو ما يشبه الوجوب الذي صرف بصارف، جاء بهذين الحديثين أيضاً، وهما أصرح في الدلالة على صرف حديث: (الوتر حق) عن الوجوب من غيرهما.
فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل في رمضان، وقام معه بعض الناس، ثم لم يقم فيما بعد، ثم انتظروا، ثم خرج عليهم في صلاة الصبح وقال: (خشيت أن أخرج عليكم؛ فتفرض عليكم صلاة الوتر) ، والصحيح في الحديث أنه قال: (خشيت أن تفرض عليكم) يعني: صلاة الليل، وهذا الذي عليه الجمهور، والمؤلف ساقه على هذه الصيغة: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) .
إذاً: لم يكتب إلى الآن، وإلى الآن لم يكتب، والذي يهمنا في تصحيح السياق وما ساقه المؤلف في قيام الليل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من رمضان فصلى، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تفرش له حصيراً عند باب الحجرة في الروضة، فصلى ليلة ثلاث وعشرين، فانتبه من كان في المسجد، فجاءوا وصلوا خلف النبي صلى الله عليه سلم؛ لأنهم كانوا يقومون رمضان أوزاعاً، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان) وجاء الحديث المتقدم ذكره: (إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، فكانوا يصلون ما تيسر لهم أوزاعاً، قال أبو هريرة: (فكان الأمر كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وكان زمن أبي بكر، وجزءاً من خلافة عمر) ، ثم جمعهم عمر على إمام واحد؛ هذا تتمة الموضوع.
لكن هنا فيما ذكره المؤلف رحمه الله: صلى أناس بصلاته ليلة ثلاث وعشرين، ثم قام ودخل البيت، وفي ليلة أربع وعشرين لم يقم، في ليلة خمس وعشرين قام، وكان الناس قد سمعوا بما صلى خلف رسول الله من الناس فاجتمعوا، فصلوا بصلاته، قيل: هي الثانية وقيل: في الثالثة، أو أن الناس صلوا العشاء ولم يقوموا من أماكنهم ينتظرون مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيصلوا جميعاً بصلاته، فنظر صلى الله عليه وسلم فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس! ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى، ولكنهم ينتظرون لتخرج لتصلي فيصلوا بصلاتك، كما صلى بصلاتك من قبل أناس، وقد تسامعوا بذلك، قال: أوفعلوا؟!! اطوي عنا حصيرك، ولم يقم تلك الليلة، فانتظروا واستطالوا الانتظار، فأخذوا بعض الحصباء وحصبوا الباب، وكان من الساج، فلم يسمع لهم ولم يخرج، حتى خرج لصلاة الصبح وهم في انتظاره، قال: والله ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما نمت بحمد الله غافلاً، ولكن خشيت أن أخرج إليكم، فتفرض عليكم فتعجزوا) إذاً: ما هو الذي يفرض عليهم الوتر أم قيام الليل؟ قيام الليل.
مسألة: كيف يخشى أن تفرض عليهم وقد سمع في حديث فرضيتها: (هي خمس وهي خمسون) ؟ وقد جاء عنه: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) ، فلو كان الوتر أو قيام الليل واجباً لصارت ستاً، هو يعلم أنها لم تفرض، فكيف يقول ذلك؟ قال العلماء: خشي أن يفرض عليهم قيام رمضان في الليل جماعة فقد يعجزون، وقد جاء أن أفضل قيام رمضان في البيت لمن يقوى على ذلك ما لم تعطل المساجد من التراويح؛ لأن قيام رمضان في المساجد أصبح شعاراً للمسلمين، ولا ينبغي أن يعطل أبداً، فإذا كان الفرد بذاته حافظاً لكتاب الله، وأراد أن يقوم في بيته فهو أفضل له، وقد شاهدت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول أمره يصلي العشاء مع الإمام ويخرج، ويصلي التراويح على سطح بيته، ثم في الآونة الأخيرة قبل وفاته بثلاث أو أربع سنوات سألته: كنت أراك تصلي التراويح في البيت، هأنت الآن تصليها مع الجماعة في المسجد، ألحديث أنس: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ؟ قال: لا، قلت: لماذا إذاً؟ قال: كنت في أول الأمر نشيطاً بنفسي أصلي دونما كسل، ولكن مع الكبر، ومع هذا الوقت إن صليت وحدي ربما تكاسلت، فأصلي مع الجماعة أتقوى بحضوري معهم، وعلى هذا تصح صلاة قيام الليل منفردة، وتصح جماعة، وتصح في البيت، وهي أفضل لمن توفرت فيه شروطها، وتسن في المسجد كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعض، وصلاها عمر رضي الله تعالى عنه، وأوجد لها إمامين يتناوبان، وإماماً ثالثاً للنساء أعجل في القراءة، ويأتي بحثها مستقلاً.
فقالوا: هو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الصلوات خمس، ولذلك لما أتى ضمام بن ثعلبة وسأل الصحابة فقال: (أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قالوا: ذاك الأبيض المتكئ... قال: آلله أرسلك؟ قال: اللهم نعم، قال: أسألك بالله الذي خلق السماوات والأرض، وأرسل من كان قبلك أفرض الله علينا خمس صلوات؟ قال: اللهم نعم -ثم سأله عن رمضان، وسأله عن الزكاة- ثم قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على ذلك ولا أنقص) وذهب إلى قومه، فما بات واحد من أهله إلا وقد أعلن إسلامه، وقالوا: ما وجدنا سفيراً أشد وأكبر بركة على قومه منه.
فقوله: (لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، وقوله صلى الله عليه وسلم بعده: (أفلح إن صدق) يفيد أن الصلوات الخمس ليس فيها زيادة، قالوا: الذي خيف منه أن تفرض جماعة، كما أنهم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ليصلي بهم جماعة، وما عدا ذلك فلا.
ولذا قالوا: لما أمن عمر من أن تفرض لانقطاع الوحي سنها جماعة، على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله.
الشاهد: أنهم جلسوا وانتظروا، وكان يصلي قبل ذلك، واتفق العلماء على أنه ما كان يشعر بصلاتهم خلفه، وليس ذلك ببعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما يكبر في الصلاة لا ينتبه لغيرها، ولا يشغله عنها شاغل، وإن كان ليس غافلاً في صلاته عما حوله؛ لأنه جاء عنه: (إني لأدخل في الصلاة على نية الإطالة، فأسمع بكاء الطفل فأخفف رحمة بالأم، لما أعرف من وجدها عليه) إذاً قالوا: كيف أقرهم على الصلاة خلفه؟ قالوا: لم يشعر بهم، ولا مانع في ذلك.
يهمنا تصحيح الحديث الذي يقول: (خشيت أن أخرج إليكم، فيكتب عليكم الوتر) والصحيح: (أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها) لكن المؤلف يريد أن يقول: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) ، ليستدل على أنه لم يكتب، ولم تأت كتابته، وهذا يرد على حديث: (الوتر حق) إذاً: حق لم يكتب كما قال علي: (ليس كالصلاة) .