[الفضيلة وسط بين رذيلتين]
وعلماء الأخلاق يقولون: إن الفضيلة وسط بين طرفين، وهذا في جميع الأمور، فإذا جئت في الإسلام فالصراط المستقيم وسط بين الإفراط والتفريط، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يفرط أو يقصر، أو أن يزيد فيما شرع الله، ولما جاء النفر الثلاثة إلى أم المؤمنين عائشة، وسألوها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وأخبرتهم أنه ينام ويقوم، ويفطر ويصوم تقاّلوا ذلك، وقالوا: عبد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأين نحن؟ فقال أحدهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر.
وقال الثاني: وأما أنا فسأقوم الليل ولا أنام وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.
فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فصعد إلى المنبر، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فهذا إفراط في العبادة، والإفراط في العبادة ينقطع بصاحبه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) .
فإذا ركبت جوادك تريد مكة أو نحوها، فأجهدت الجواد بأقصى قوته، فسيتعب ويهلك، فلا أنت قطعت مرحلة سفرك، ولا أنت أبقيت على جوادك، ولكن إذا أخذته بالرفق، ومشيت بقدر استطاعته، وإذا وجدت مرعى تركت له الفرصة ليشبع، وإذا وجدت ماء سقيته، وإذا شعرت بشدة الحر آويته إلى الظل، فإنك تستطيع أن تواصل السير عليه، ولو مشيت به الأرض كلها؛ لأنك تأخذه على طاقته.
ولما جاء الأعرابي وسأل عن الصلاة وسأل عن الصيام قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص.
فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح إن صدق.
فالفضيلة وسط بين الطرفين، لا أن يقصر فيما وجب عليه، ولا أن يزيد فيما لم يكلف به كما في الحديث: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فلن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .
فالفضيلة وسط بين طرفين، فالبخل والتبذير طرفان مذمومان، والكرم وسط بينهما، فالكريم ليس ببخيل ممسك، وليس بمبذر متلف، ولكنه في وسط، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:٢٩] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:٦٧] فهذه هي الوسطية في هذا الباب.
وكذلك الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فليس الشجاع بجبان يمتنع عن المصارعة والمقاتلة، وليس بمتهور إذا جاء إلى القتال يرمي بنفسه، ولا يدري من أين المخرج، وكذلك في العبادات، فالتوسط: عدم الإفراط والتفريط فاليهود فرطوا لأنهم قصروا في أمور العبادات واحتالوا على المحرم، كما في عملهم في يوم السبت، فلما حرموا على أنفسهم يوم السبت امتحنهم الله، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:١٦٣] ، فما استطاعوا أن يصبروا، فاحتالوا وألقوا الشباك يوم الجمعة، فعلقت فيها الحيتان يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، وقالوا: نحن في السبت لم نعمل شيئاً، وكنا في بيوتنا.
وكذلك لما حرم الله عليهم بعض الشحوم أخذوها فجملوها وأذابوها، فباعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: نحن لم نأكل الشحم.
ففرطوا في العبادات.
وانظر أيضاً إلى ما قالوه في عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاءت به مريم عليها السلام، قومها تحمله كما قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٧-٢٨] ، فانظر إلى أي حد ذهبوا، بينما النصارى قالوا: هو ابن الله، هو ثالث ثلاثة.
فأي فرق بين القولين؟ فبينهما ما بين السماء السابعة وتحت الثرى.
والإسلام قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولذا فـ النجاشي لما سمع ذلك من جعفر الطيار في الهجرة إلى الحبشة الأولى هبط إلى الأرض، وأخذ قشة من الأرض وقال: ما زاد صاحبكم على ما جاء في عيسى ولا مثل هذه القشة.
فالإفراط والتفريط متغايران، فاليهود أخذوا جانب التفريط، والنصارى أخذوا جانب الإفراط.
والتوسط في العبادة إنما هو في الإسلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا} [الجمعة:٩-١٠] ، فساعة الذكر تذهب إليها، وساعة عمل الدنيا تذهب إليها.
ثم إن الإنسان يتكون من مادة وروح، والمادة هي الجسم، وهو بيت تسكنه الروح، وكل له غذاؤه، فالجسم يحتاج إلى الطعام والشراب؛ لأنه من الأرض ومن مادتها، ويخلد إليها، والروح تحتاج إلى العبادة والذكر؛ لأنها نورانية تسموا إلى الملأ الأعلى، وغذاؤها العبادة، وفمن غلب جانب المادة على الروح ففيه شبه من اليهود، ومن غلب جانب الروح على المادة ففيه شبه من النصارى.