شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ... )
قال رحمه الله تعالى: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البائع والمبتاع -بصريح العبارة- بالخيار -في عقد البيع- ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقةَ -أو صفقةُ- خيار) على ما تقدم في حديث ابن عمر.
أشتري منك على أن يكون لي الخيار عدة أيام، ونجد أغلبهم على أن مدة الخيار ثلاثة أيام، ومالك يقول: ليس في ذلك حد عندنا ينتهى إليه، وكل سلعة خيارها بحسبها، فإذا اشتريت ثوباً أو بعيراً، فهذه يكفي فيها ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب المصراة ثلاثة أيام يحلب وينظر، وبعد الثلاثة الأيام ستظهر، قال: وأكثر من ذلك أكرهه.
إذا اشترى عبداً على الخيار: هل تكفي ثلاثة أيام لاكتشاف كل نوايا العبد أو طبائعه أو أخلاقه؟ لا تكفي، اشترى داراً، هل الثلاثة الأيام تكفي لمعرفة الدار وحسن بنائها، ومعاملة جيرانها، وتصريف مرافقها ومنافعها؟ لا، فقالوا: كل سلعة بحسب مكانها تكون مدة اختيارها.
إذاً: (إلا أن تكون صفقة خيار) ، أي: مشروط لها خيار، كم يكون؟ الجمهور يقولون: ثلاثة أيام، ومالك يقول: لا حد في ذلك عندنا؛ لاختلاف السلع فيما تحتاجه من مدة يتأملها المشتري، ويعرف محاسنها وعيوبها، والحديث يجيز وجود الخيار بين المتبايعين إلى مدة ما اتفقا عليه؛ ما لم تكن المدة حيلة لاستفادة البائع من المبيع؛ على ما سيأتي بيانه في الخيار في الأجرة على مدة لا تلي العقد.
قال: (إلا أن تكون صفقة خيار) وصفقة الخيار: أن يتفق الطرفان على وجود خيار لأحد المتعاقدين مدة معينة بعد إمضاء العقد، سواء كان الخيار للبائع أنا أبيعك لكن أريد أن تعطيني مهلة يومين، المشتري: أما أنا فقد أمضيت البيع من عندي، وأنت لك مهلة ثلاثة أيام.
أو كان الخيار للمشتري، البائع قال: بعتك.
والمشتري قال: اشتريت؛ ولكن أريد أن أشاور أخي الأكبر، أشاور صديقي، أشاور صاحب خبرة.
قال: لك ثلاثة أيام.
فوقعت الصفقة صفقة خيار، فهما على شرطهما، إن اختار إمضاء البيع في المدة فالحمد لله، وإن اختار رد المبيع وفسخ العقد فله الحق في ذلك، وإن كان دفع الثمن يسترجعه.
ثم تأتي الأحكام والتفريعات التي نص عليها ابن عبد البر وغيره: إذا كان الخيار مدة عشرة أيام، والسلعة في يد المشتري من أجل أن يختبرها، فضمانها وغرمها على من؟ وغنمها لمن؟ تقدم لنا بأن الغنم بالغرم، فهي في يد المشتري على ملكه، وإن تلفت فعلى حسابه، وإن غنمت فلحسابه، إن رد البيع أو أمضاه، أو كان عبداً يحتاج إلى مئونة، أو فرساً يحتاج إلى علف فعلى المشتري؛ لأنها في ملكه، أما إذا بقيت في يد البائع فهي أمانة عنده للمشتري.
وهذه التفريعات التي تكثر في هذا الباب لا تحصيها إلا موسوعات الفقه الموسعة.
إذاً: جاز خيار الشرط، وخيار الشرط أهم ما فيه هو: ألا يتخذ حيلة، وهذه الحيلة كنا نسمع بها في اليمن على مدى واسع في العقارات، يأتيه ويبيعه العقار ويقول له: لك الخيار إلى أن تأتيني بالثمن فأرد العقار عليك باعه البيت واستلمه وسلم الثمن، ثم ذهب البائع بالثمن، وانتقل المبيع من بيت أو أرض إلى المشتري على أن البائع له الخيار متى ما جمع الثمن جاء به إلى المشتري استرد البيت أو البستان، المحظور في هذا ما هو؟ كان يأتي ويقول: أقرضني ألفاً.
يقول: ما عندي قرض.
لكنني لست مستغنياً، أعطني البيت وخذ الألف، ويوم أن تردني الألف خذ بيتك.
(خذ بيتك) هذه ما هي؟ ظل يجمع الألف سنة سنتين والبيت بيد المشتري، وحينما يرجع البائع ويقول: لي الخيار، وقد أحضرت الثمن، فيسلم الثمن كاملاً للمشتري ويسترجع البيت.
سكنى البيت لمدة سنتين من قبل المشتري حتى جمع البائع الثمن مرة أخرى ورده لحساب المشتري الذي انتفع بها، هل كان الأصل في ذلك بيع وشراء والغرم بالغنم، أم كان البيع مبناه على أن المشتري يقرض البائع ويستفيد مقابل القرض سكنى البيت؟ فحينئذ يكون الشرط في الخيار حيلة، وربما تجدونها في كتب الحنابلة في الإجارة، (ويصح خيار الشرط في الأجرة ما لم تكن على مدة تلي العقد) .
هذه عبارة زاد المستقنع، وبيان هذا: إذا كان عندك بيت، وتريد أن تؤجره، فأجرته الآن، والمستأجر استلم البيت ودفع الأجرة، وشرط لك الخيار في رد البيت شهراً، البيت عندك شهر، والأجرة عندك، إن هو وقع له اختيار الرد سيرده بعد شهر والأجرة عندك، ترد له الأجرة ويرد لك البيت، حينما أخذ البيت عنده والخيار شهر، فرد البيع واسترد الأجرة كاملة، أجرة الشهر إن كان استفادها مقابل مجرد خيار؛ فلا بأس، لكن إذا كان الشرط والمهلة تلي عقد الإجارة؛ فهي حيلة ليستفيد المستأجر سكنى البيت شهراً، وسيرده بعد مدة الخيار ويسترجع الأجرة كاملة.
أما إذا كانت مدة الخيار لا تلي العقد فهذا صحيح.
مثلاً: نحن الآن في شهر جماد الآخر، قال: أؤجرك البيت سنة كاملة تبدأ من واحد رمضان، وبينه وبين رمضان أكثر من شهرين فقال له: لكن أنا أريد أن أشاور؟ قال: لك الخيار شهر ونصف من الآن! هل سيستلم البيت؟ استلام البيت في الأول من رمضان، والخيار يبدأ من الآن؛ لأن عقد الإيجار الآن والتسليم في واحد رمضان، فإذا جعل له خياراً شهراً كاملاً لكنه لا يلي مدة العقد؛ لأن مدة العقد من واحد رمضان، بل هو دون مدة العقد، هل سيحصل هناك حيلة أو غبن في شيء؟ لا، اختر على ما ترى، والبيت عند مالكه، وهناك وقت طويل حتى يأتي رمضان، استلم البيت وسلم الأجرة، والفترة هذه كلها لك الخيار فيها، إذاً: ما ضاع شيء على صاحب البيت.
إذاً: خيار الشرط على ما شرطاه، ولكن يكره مالك وغيره أن يكون على مدة طويلة؛ لأن فيها شبه نزاع، وألا يكون لحيلة يستفيدها أحد المتعاقدين في مدة هذا الشرط.
[ (إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] .
هذا -كما يقال- استطراد وتذييل يؤكد معنى الافتراق: ما لم يفترقا، أي: بالأبدان، ولا يحل له، أي: أحد المتعاقدين أن يفارقه من المجلس خشية أن يندم أو يستقيله، هل معناها التفرق بالأبدان أم التفرق بالأقوال؟ بالأبدان، تعاقدتما وأنتما في المجلس، وتخاف أن يرجع في كلامه فتخرج من المكان قصداً خشية أن يرجع، يعني: فارقه ليضيع عليه خيار المجلس، فلا يحل له؛ لأنه فوت عليه فرصة أعطاه الشرع إياها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وهو راوي الحديث الأول- إذا تعاقد مع إنسان على شيء يهمه حينما يتم العقد يفارقه ويخرج، ثم يرجع إليه، قالوا: إذاً كيف يفعل ابن عمر هذا، والرسول يقول: (ولا يحل له أن يفارقه) ؟ يذكر العلماء هذا دليلاً على أن التفرق يراد به تفرق الأبدان وليس تفرق اللسان، ويعتذرون عن ابن عمر بأن مفارقته لمن تعاقد معه بائعاً أو مشترياً أنه لم يبلغه هذا النهي، ولا يحل له أن يفارقه خشية كذا، أو أنه يتأول ذلك على سبيل الإرشاد وليس على سبيل اللزوم على كل له عذره، والله تعالى أعلم.
قال: [وفي رواية: (حتى يتفرقا عن مكانهما) ] .
هذا هو التفرق بالأبدان عن مكانهما.